من أدبيات الثورة العراقية
يقول التاريخ الحديث .. تمّ للقوات البريطانية احتلال ميناء البصرة في 22 نوفمبر من عام 1914. وبذلك أمـّنت بريطانيا ابار الزيت في أيران ضد أي خطر محتمل من جانب القوات الالمانية والتركية. وشرعت في أعداد البصرة لتكون قاعدة حربية لحملتها التي أزمعت شنّها على بغداد والموصل. وقد عهدت بريطانيا بمسئولية الادارة السياسية في العراق الى السير (بيرسي كوكس) الذي أذاع على العرب بيانا أكد فيه أن بريطانيا لا تضمر لهم العداء. وأنها تنتظر أن يبادلوها شعور الصداقة. وأنها ستعمل على حماية مصالح أصدقائها العرب … وبعد أن فرغت بريطانيا من حملتها على البصرة، شرعت في غزو بغداد. لكنها منيت بهزيمة ساحقة أمام القوات التركية والعراقية، عند مشارف بغد1د واضطرت الى التراجع والانسحاب.
وفي خريف عام 1916 أذاع قائد الجيش البريطاني في العراق الجنرال (مـود) بيانا على الشعب العراقي يمنيه فيه بالحرية والوحدة والاستقلال.. فمكن ذلك بريطانيا من استمالة العراقيين بالوعود وتجنيدهم لخدمة الجيش البريطاني. ثم احتلت بريطانيا العراق وأخذت قواتها تطارد الاتراك شمالا الى أن تم توقيع الهدنة بينهما في 30 نوفمبر عام 1918، فاحتل الجيش البريطاني الموصل في اليوم التالي …
وفي نوفمبر 1919 حاولت السلطات البريطانية أغراء شعب العراق بأن يطلب حماية بريطانيا العظمى لكي تفرض رسميا على العراق، بدلا من إعلان الاستقلال الموعود. فكان ذلك أيذانا باشتعال الثورة في العراق ضد الحكم البريطاني. وقد ظلت الثورة العراقية مشتعلة حوالي العام ضحى فيها الشعب العراقي بأكثر من عشرة الاف بين قتيل وجريح.. وبسبب الخسائر البشرية التي تكبد تها بريطانيا، وملايين الجنيهات التي انفقتها في سبيل قمع الثورة دون جدوى، فقد عمدت الى أسلوب المخادعة وتقديم الوعود لكي تتخلص من ضغط الثورة، ريثما يتم لها موافقة المجلس الاعلى للحلفاء، الذي تم عقده بعد ذلك في (سان ريمو) على انتدابها على العراق. فتم لها ذلك، وقامت بتعيين (السير بيرسى كوكس) مندوبا ساميا في العراق .. فأذاع في 17 من يونيو 1920 بيانا اشار فيه الى مسئولية بريطانيا عن الامن الداخلي والخارجي للعراق. كما بادر بتشكيل مجلس الدولة، وإقامة حكومة عراقية مؤقته، على أن يخضع رئيس الوزراء والوزراء جميعا لاشرافه ولرقابته الشخصية.
وعلى أن لايكون للوزراء اختصاص في الشئون العسكرية أو الشئون الخارجية. كما عين لكل وزير مستشارا بريطانيا يتولى توجيه السياسة الداخلية .. مما حدا بأحد الشعراء المشهورين للتهكم على أولئك الوزراء قائلا ” المستشار هو الذي شرب الطلا .. فعلام يا هذا الوزير تعربد؟”
هذا ما يقوله التاريخ القريب..
والسؤال الوارد هنا: هل هناك احتمال اليوم لان يعيد التاريخ نفسه؟
ثم نترك هذا السؤال الحائر، لننتقل الى أدبيات مرحلة الثورة العراقية .. من المعروف انه كان لعلماء الدين لاسيما في النجف الاشرف، الدور البارز في المقاومة وحث الجماهير على القتال ضد الغزو البريطاني. فقد أصدرت المراجع الدينية العليا في النجف الاشرف، الفتوى بالجهاد. وتقدم العلماء صفوف المجاهدين وهم يلبسون الاكفان. وثارت قبائل الفرات الاوسط وانتظم المجاهدون والثوار في فرق متعددة، وتم الاستعداد للقتال وحفر الخنادق، استعدادا للمواجهة. وقد ذكر ان فضيلة الشيخ عبد الحسين الحلي (الذي أصبح فيما بعد أول قاض للتمييز الشرعي، في محاكم البحرين) كان في صفوف المجاهدين. وفي قصيدته التي نوردها بهذه المناسبة وصف شاعري، مهيج ومثير للمشاعر، يصف مشاركته في الثورة العراقية:
(الحنين الى الوطن)
للشيخ عبدالحسين الحلي
لو لا انتزاحي عن أهلي وعن وطني *** لم يجف جفني يوما لذة الوســــن
له صـــبوت ومافي صـــبوتي عجب *** إنى شربت هواه العذب فى لبنى
فـــارقـــته ويرغـــمى أن تباعدنــــــي *** عن قربه مهن جرت إلى محــن
إن دام حـــزنى فلا والــله ما نظــرت *** عيني إلى منظر من بعده حسـن
إذا شـــجـــانى أنــــى عـــنه مبتــــعد *** فإن ذكراه سلواني من الشــــجن
قالـــوا هـــواه من لإيمــان قلـــت لهم *** نحّوا حديث (من الإيمان) عن أذني
إن امرؤ لا أرى الإيــــمان يحـــفزني *** له ومن فوقي إيمانى أرى وطنى
عــــبدته وهو أحـــجار ولا عــــجب *** من مسلم فى هوى أوطانه وثــنى
كـــــفى بأنـــى لم أشـــرك بوحدتـــه *** سرا وأنى ما داهـــنت فى علنــى
لقد بكـيت وأبكيت الصـــخور مــــعى *** من غربة لى جرّت أعظم المحن
أن الـــغـــــريب وإن عــزت مكانــته *** هيهات ينفكّ عن وجد وعن حزن
تـــــظـــنه بهنــــاءالــعيــش مغتــــبط *** لكن عيش غريب الدار غير هنى
قالوا اتبكى على الأحجار قــــلت لـــهم *** بهن مرمس آبائى الــكرام بُنـــى
بمعــشري وبآبــائي وبــى رفــعت *** نها المقاصير فى الأرياف والمدن
إنى لأعذل من يبــكى على أحــــــد *** ولىّ وأعذر من يبكى على الدمنّ
أرض رسى مغرسى فيها فطاب وكم *** منه تفرّع للعـــلياء من غصـــن
بها نشأت وفي ابياتها انتزعـت *** تمائمى وبها اقتاد الهوى رسنى
لها تحــملت ما تفـنى النــــفوس به *** يا حىّ من بقيت أوطانه وفـــنى
ماللــنفوس ســـوي اوطانــها ثـــمن *** وليس للوطن المحبوب من ثمـن
كم غمرة خضتها لــلذب عـــنه وما *** غـامرت با لنفس في يـوم من الـّزمن
ونار حرب له كنت اشـتملت بـها *** كالماء أفرغه برداً عـــلى بدنـــى
إن عربد المدفع الرّعاد قمـــت له *** شوقا، وما قمت من خوف ومن جـــبن
وإن دوت من فم الرشّــاش زمجرة *** حسبتها نغمة الأوتـــار في أذنــي
أبيت فى خندق ضــنكِِ فأحـــسبه *** غمداً أقام به سيف بن ذي يــــزن
أصافح الترب فيه وداعـــا وأرى *** انّى على المسك ثاو لا على درن
وأستلين به الأحـــجار أحــــسبها *** مهداً ولولا هوى الأوطان لم تلن
إنى أغـار عليـــها أن تدنــّـسهـــا *** أو أن تــــمد لأدنـاها أكـف دنـــى
أعيذها أن يحل الضــــيم ساحتها *** وإن تهى ..لا وهت يوما وأن تهن
يا أيها الوطن المحبوب لا برحت *** منك المواطـن فى أمن من الفتـــن
إنى لأنـعم عـيــنا فى هــــواك وإن *** أوليتني منك ظهر المركب الخشن
أفديك بى إن غدا فى لحظ باصرة *** موتى ومحــياك مقرونين فى قرن
وهكذا سجل التاريخ كيف شارك شعب العراق تحت لواء المراجع الدينية في النجف الأشرف للدفاع عن الوطن في وجه الغزو البريطاني..متناسين مشاعرهم تجاه حكم السلطة العثمانية وتعسفها وذلك في سبيل الدفاع عن حياض المسلمين كافة ..لولا أن الأقدار لم تسعفهم وسارت الرياح بما لا تشتهي السفن،حيث نجحت القوات البريطانية في احتلال العراق..وتخليصهم من الحكم العثماني .. ولله في أمره حكم و شؤؤن.
.
بقلم: تقي محمد البحارنة ٢٠٠٣