عاصفة الخليج

حتىّ أثار الجـوّ زوبعة بها *** خصّ الخليج، فعمـّه التغيير
نسفت سعادته ومنعة شعبه *** وحقوق أمـّته، وهنّ نـذور
.

هل كان يدور في خلد الشاعر العراقي النجفي، محمد صالح بحر العلوم، وهو يلقي قصيدته ذائعة الصيت التي قالها في رثاء الشيخ عيسى بن علي ال خليفة، حاكم البحرين الراحل، في عام 1932 … أن الامور ستجري في الخليج والعراق على نحو مما تنبأ به .. ولكن بعد نحو من ستين سنة أو أكثر؟ وبالتحديد في عام 1991 وهو عام ” عاصفة الصحراء ” الامريكية التحالفية، أو أن تتكرر بعد ذلك لتصبح زوبعة حقيقية مد مرة، تأكل الاخضر واليابس، وتسحق تحت عجلاتها حضارة بلاد الرافدين في شهر مارس من عام 2003، حينما احتلت أمريكا وحليفاتها قلعة الرشيد(بغداد) ثم كامل التراب العراقي، بقوات عسكرية ضاربة متطورة لا مثيل لها في التاريخ …

وكما يبدو اليوم، بعد أن هدأت عاصفة الحرب، واستبد العنف والأرهاب بشعب العراق المغلوب على أمره، فأن الزوابع التي أشار اليها الشاعر محذرا سوف لن تتوقف اثارها عند الخليج والعراق، بل ستتعداهما الى أقطار الوطن العربي والاسلامي، بما في ذلك شعب فلسطين المستباح. والأقطار العربية وأيران ممن اعتبرتهم أمريكا (دولا شيطانية) و ستصبح العراق وعمقه الاستراتيجي في الخليج، قاعدة لهذا الانطلاق.

والعالمون بالامور في الوطن العربي أو في خارجه، باتوا يشعرون بالقلق الشديد، وتساورهم المخاوف والشكوك من هذا الامتداد الاحادي القطب في منطقة حساسة من جسم العالم ومصادر الثروات الطبيعية فيه، دون أن يكون للشرعية الدولية مكان، أو دور فاعل يوجه ذلك التواجد والامتداد. وهم على حق.. ولعلهم أدرى من غيرهم بما هو قابع فيما وراء الاكمة من مشاريع ونوايا لاتمت بصلة ألى ما يجرى الاعلان عنه.

ومن البديهي – في وضع كهذا – الاستنتاج بأن اقصاء الامم المتحدة، ومجلس الامن، و تحدي الشرعية الدولية في العراق المحتل وفي فلسطين المغتصبة، انما هو أمر مدبر بليل! يؤيد الشكوك ولا يساعد على الاستقرار.

ومن جهة أخرى، فأن الاوراق المطروحة اليوم على امتداد الساحة العربية (وربما الاسلامية أيضا في مراحل متزامنة أو لاحقة) تتحدث كلها عن ضرورة التغيير لمصلحة الشعوب والديموقراطية! وتلك حقيقة تدركها شعوب المنطقة، وتتطلع اليها .. ما لم تكن من قبيل ” كلمة حق، يراد بها باطل!” ويفهم مما هو مطروح في العلن – على لسان الاحتلال – أن المقصود بذلك هو أحداث التغيير في أساليب الحكم الانفرادية، وتعميم الحكم الديموقراطي الشعبي الحر، وأسناد دور مؤسسات المجتمع المدني، وفي الاقتصاد ليصبح أقتصادا حرا مفتوحا على العالم. وكل تلك الاهداف أمور لاغبار عليها من حيث المبدأ، لاسيما أذا أخذنا بمفهوم (العولمة) على علاته. أما القادرون على قراءة ما بين السطور.. في مشروع التغيير هذا، فبإمكانهم استنتاج الكثير مما لم يتم الاعلان عنه بعد، لكونه من الامور التي تتعرض للسيادة الوطنية، ربما، أو لانه مما يدخل في باب الاستعمار الثقافي السافر، ربما، أو لأنه في حقيقته من نوع ” التطبيع ” الذي تشترطه ” أسرائيل ” لابرام صفقة الاستسلام تحت مسمى السلام ! .. وأخيرا ربما لأنه (وهو الارجح) مشروع لتغيير بنيوي طموح جدا يشتمل على أكثر مما سبق ويحتاج الى مهلة من الزمن لتنفيذه على مراحل. ولا يستبعد أن يتناول ما يتصل بالفكر والثقافة والتعليم والمناهج، والمرأة والمجتمع، والدين، والعلاقات الاقليمية والدولية.

ثم أن المنصف الذي يؤمن بضرورة التغيير كمبدأ تقتضيه سنة التطور وحركة العالم، لا يفترض أن يكون متسرعا في أصدار الاحكام المسبقة على حوادث لم تقع بعد. ومع ذلك فانه من الغرابة بمكان ومن قبيل السذاجة المستهجنة، تصور أحداث التغيير بأوامر عسكرية، أو بشروط إملائية قسرية، دون توفر أجواء من الحوار المتكافئ، والاقتناع والرغبة الحرة، من جانب الطرف المستهدف. وأشد من كل ذلك خطورة، تجاهل ردود الفعل وغليان العاطفة مما يؤدي بدوره الى عدم الاستقرار، والمعاناة وعلى الاخص حين تكون الدوافع الحقيقية للتغيير هي المزيد من الاستيلاء وبسط النفوذ الخارجي للاستيطان في قلب الامة العربية وفكرها وثقافتها، وعلى ترابها المقدس.

أن الامة العربية اليوم تجتاز مرحلة حرجة، ما في ذلك شك. مرحلة تسعى فيها القوى العظمى بالتحالف مع إسرائيل، لتحجيم دورها، وزعزعة استقرار أنظمتها، وخلخلة البنى الاساسية في الفكر والعقيدة. وسيكون كل ما يحدث من تغيير لصالح تلك القوى، مالم نتمكن من الامساك بمقدراتنا بأيدينا، ومالم نثبت للعالم أننا لسنا أمة قاصرة تحتاج الى وصاية! وأن بمقدورنا أن نباشر بالاصلاح والتغيير على الطريقة التي نريدها لصالح أمتنا وشعبنا ومستقبل أجيالنا. وهو كلام موجه في أصله لقادة الانظمة العربية، ممن لم يستجيبوا بعد لسنة التطور والاصلاح، ومنطق العصر..

ولاجدال في أن هذه الفترة الحرجة أنما هي أنسب الاوقات لنا لقيام تواصل حقيقي جدي بين أنظمتنا العربية المتقوقعة، وبين المشاريع الاصلاحية التي ما فتيء ينادي بها المخلصون من رواد الفكر العربي التقدمي الاصلاحي قومية كانت أو اسلامية أو بمجهود شعبي مشترك بينهما بمباركة شعبية، وذلك من أجل الوصول الى سفينة النجاة لهذه الامة المغلوبة على أمرها بهوى النفس وطغيان الاستبداد، والتي وصف حالة القسر والشلل فيها، وأجاد، فيلسوف المعرة حبن قال:

جلوا صارما، وتلوا باطلا *** وقالوا: صدقنا .. فقلنا نعـم

.

بقلم: تقي محمد البحارنة

المجلة الثقافية – ٢٠٠٥

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى