المستشار: شارلس بلجريف – إداري حازم ونزيه لكن بعقلية تسلطية استعمارية محافظة
لم أكن أعرف السيد شارلس بلجريف مستشار حكومة البحرين (1926-1957) معرفة شخصية، ولا أظنه كان يعرفني كذلك. لكنه كان يعرف والدي لاسيما عند مروره في الصباح الباكر ممتطيا صهوة جواده – على منزلنا في طريقه الى (القلعة) حيث يقف قليلا ليستمع الى والدي وهو يقرأ القران .. ثم يحدث أخي الأكبر صادق قائلا: أن الوالد يقرأ القران بصوت جميل. ولعل أول معرفة له بوالدي منذ أن كان أمينا لصندوق المدرسة الجعفرية بالمنامة (1927-1932) وقرار المستشار ادماج المدرسة ضمن ادارة التعليم الرسمي. وقد بادر الوالد حينئد بتسليم اموال المدرسة الى الحكومة بعد خصم رواتب المعلمين ودفع المستحقات. ومن واقع تقدير الذمة المالية وهي الهاجس الأكبر لدى المستشار تجاه أدارات المؤسسات الأهلية التي كان يشك فيها دائما – عبر المستشار للوالد عن تقديره وأثنى عليه..
وكان المستشار يعرف ايضا أخي الدكتور حسين، منذ أن سافر الى بريطانيا بمساندة المعهد البريطاني لأكمال دراسته الجامعية..ثم قطع عنه المعونة المالية بعد سنة من الدراسة ونصحه بالعودة الى البحرين وصرف النظر عن أكمال دراسته لنيل الدكتوراه قائلا: أن البحرين سوف لن تحتاج الى خريج دكتوراه في القانون خلال المائة سنة القادمة!! فأذا أضفنا هذه الحادثة عن تصرفات بلجريف باسترجاع البعثات الطلابية التعليمية بعد سنة أو سنتين من الدراسة في الخارج كما حصل في بعثة الجامعة الأمريكية أوائل الثلاثينات. ثم بعثات الدراسة الى مصر في منتصف الاربعينات.. أدركنا نظرة المستشار الضيقة التي تحصر التعليم المناسب للبحرينيين في المرحلتين الابتدائية والثانوية فقط، وتنظر بعين الريبة والشك الى التعليم الجامعي الذي يهئ الطلاب لممارسة السياسة وأثارة المتاعب للحكومة حسب اعتقاده .. ونتبين ذلك من بعض كتاباته وتقاريره السنوية.
وفيما عدا نظرته للتعليم ولمساندة المتعلمين والطلاب لمطالب أهالي البحرين التي يعتبرها من قبيل الشغب وتعكير الأمن – فقد كان بلجريف في غير ذلك رجل أدارة حازم وضبط مالي وأداري نزيه. ولعله لم يحدث في تاريخ عمله في البحرين ذلك النوع من التسيب المالي والأداري الذي شهدته السنوات اللاحقة لعهده. وتدل تقاريره السنوية لوزارة الخارجية البريطانية او الى الحاكم العام البريطاني في الهند بعد أن تم الأفراج عن نشر تلك التقارير – على تذمـّره ومعارضته للتبذير في أموال الحكومة ومصادر دخلها لدرجة جعلته غير محبوب حتى لدى أفراد العائلة الحاكمة بسبب التقتير والأقتصاد. وهو الذي أقنع شيخ البحرين بتغيير حصة الحاكم من نصف الدخل- كجاري العادة في عهد الميجر ديلي وفي السنوات الأولى من قدومه الى البحرين-الى الثلث واستثمار الثلث الاخر في صندوق المستقبل للمشاريع والأجيال (وكان هذا المبلغ يودع في بنك للويدز في بمبي قبل نقله الى موقع اخر…). بينما باقي الثلث خصص للموازنة العامة. وذلك ابتداء من العام 1934 . وقد استنجد المستشار لأقرار هذه السياسة بالحكومة البريطانية وبالحاكم العام في الهند. وقد أبدى أسفه في كتاب مذكراته بعد تقاعده بأن هذا الصندوق المخصص للمستقبل .. لم يعد له وجود .
وقد تجلى اقتصاد بلجريف في النفقات خلال سنوات الحرب الثانية (1938-1944) في ترشيد الإنفاق الحكومي، وكان من عادته ارسال اجوبته على الرسائل المرفوعة اليه على نفس الورقة كما فرض على جميع الدوائر استعمال اغلفة الرسائل لعدة مرات توفيرا للمغلفات والورق الذي شح في الأسواق ايام الحرب. ويعرف عن بلجريف انه كان بسيطا في مسكنه وملبسه وحياته العادية .. وكان باب مكتبه مفتوحا دائما للمراجعين. ويتجول في كل مكان راجلا او على الحصان بدون حراسة ما عدا مرافقة سائس الحصان. وحين قفز به حصانه عند احدى الحفر وحدث له كسر في رجله .. انتظر طويلا وهو يتألم و يلوّح للسيارات لنقله حتى جاء اليه سائق شاحنة نقل وأخذه الى المستشفى.وكان ينام على سطح منزله في ايام الصيف رغم وجود اجهزة التكييف في البحرين.
وعلى الجانب الاخر، فأن نظرته الى شعب البحرين تتصف بعدم الثقة والشك والحذر في تعامله مع الأفراد او المؤسسات مثل الأندية والتجمعات العمالية والطلابية.. ويرى في قادتها مجرد أشخاص يسعون للزعامة والمركز أو الكسب المادي، ولايتورع عن وصف افراد الشعب بالرعاع وعدم الوفاء، مثل قوله في كتاب مذكراته المترجم للعربية وذلك بمناسبة عدم حضور جمهور كبير لوداع الميجر “ديلي” عند مغادرته البحرين: (أن الشعور بالعرفان صفة نادرة بينهم .. فهم بطبيعتهم لا عاطفة لهم وهم ماديون وكثيروا السخرية وأعابة الاخرين) وكان عليه أن يسأل عن السبب في عدم حضور أهالي البحرين لوداع الميجر ديلي ليعرف انهم لا يحبونه.. ويبدو لي أن بلجريف ألف التهرب من المطالب المحرجة بالتركيز على الأشخاص والتشكيك في نواياهم. أو اتهامهم بأنهم مضللين او على صلة بالحركات الحزبية والسياسية في الوطن العربي لاسيما العراق وسوريا ومصر، ويعتبر ما يكتب في صحف تلك الدول عن الأوضاع الاستعمارية في البحرين مجرد اضاليل لتشجيع الأخلال بالأمن.
وكان المستشار لا يخفي اعتقاده بأن افراد الشعب العاديين لا يفهمون في السياسة شيئا ولايعلمون ماذا يريد قادتهم .. وحتى القادة المتزعمون فانهم لا يدرون ماذا يريدون…وأن افراد الشعب همهم الوحيد كسب العيش وتأمين اقواتهم وممارسة عاداتهم وتقاليدهم الدينية المألوفة. أما القادة والزعماء الذين سافروا للخارج فهم وحدهم الذين يثيرون الشغب ويحرضون الناس العاديين على الحكومة وأنهم وحدهم سبب تلك المشاكل الأمنية.. ومعاقبة هؤلاء القادة بالسجن أو التسفير للخارج هو الحل الأمثل.
ومن الجدير بالملاحظة أن معظم المطالب الوطنية التي كانت ترفع للحكومة، كان موقف المستشار منها الأهتمام بالشكل المتمثل بالأشخاص والظروف، وتجاهل الموضوع وهو المطالب ذاتها. وقد ورد في كتاب مذكراته الشخصية ما يفيد أنه في قرارة نفسه كان يتعاطف مع مطالب الهيئة التنفيذية العليا (هيئة الأتحاد الوطني لاحقا) لكنه كما ورد في ترجمتها العربية صفحة (344) يقول عن الهيئة: “.. لم أثق في الرجال الذين يقودونها لأنني أعرف أنهم لم يتحركوا بدوافع المصلحة العامة وحب الغير…” ومن المعروف كذلك عن بلجريف عدم ميله للجلوس مع أصحاب المطالب الوطنية والأصلاحات السياسة والتوصل الى حلول مرضية .. فهو يفضل أن يتخذ قراره منفردا وقد يختار من تلك المطالب أهونها وأقلها شأنا ويصدر أعلانا حكوميا لا يرضى عنه الجمهور ويثير حفيظتهم، وذلك كما فعل في رده على مطالب الهيئة التي وقع عليها كما يعتقد ما يقارب التسعين الفا من المواطنين .. حين نشر أعلانا حكوميا يقول فيه :(تقدم الى الحكومة ” بعض أناس ” بمطالب ..وأن الحكومة ماضية في القيام ببعض الإصلاحات ..الخ).
وفي فقرات من كتاب مذكراته يتهكم بلجريف على مستوي وعي الجمهور بمطالب (الهيئة) حين يسأل بعض الفلاحين والعمال عنها ويصفهم بالغباء. وقد سبق أن قرأت لبلجريف في مذكراته (أن لم تخن الذاكرة) انه أورد مثلا (في غير محله) للاستشهاد بسذاجة شعب البحرين حيث ذكر أنه لما تم أنشاء القاعدة البحرية في الجفير طلبت منه وزارة الخارجية البريطانية معرفة رأي الجمهور في موضوع القاعدة البحرية .. ويقول إنه استدعى من عمداء القرى نفرين أو ثلاثة وسألهم عن رأيهم في انشاء القاعدة البحرية في الجفير فأجابوا لا مانع لديهم لكن أكثر ما يخافونه في هذا الأمر هو ” أن ترتفع أسعار بيض الدجاج على الناس”.
ومن المعروف عن المستشار بلجريف أيضا تدخله المباشر في جميع شئون الأدارة والمؤسسات في البلاد، بما فيها المحاكم العدلية والبلديات ومجالس الأوقاف والقاصرين وغيرها حيث كانت رئاسته لها أو حضوره فيها لازما في جميع الأوقات ما لم يعتذر بنفسه عن حضورها. وحتى المدارس والمستشفيات ومدراء الأمن والجمارك وغيرها تقع تحت اشرافه رغم وجود مدراء لها. وكان المستشار (وهذه تضاف الى حسناته) يتدخل في معالجة المشاكل الأسرية وحفظ حقوق القاصرين في منازعات المواريث. كما يقوم شخصيا بمداهمة المنازل وتفتيشها عند اللزوم للتحقيق في الجرائم والممنوعات وما شابه ذلك. وفي ذلك فقد لصقت صفة الدكتاتور والمتسلط بالمستشار طيلة عمله في البحرين. كما يؤخذ على المستشار بلجريف أيضا محاباته للشركات الأنجليزية دون غيرها وعدم احكام الرقابة على أعمالها.
ومع كل ما سبق ذكره عن سيرة بلجريف فأن من الأنصاف الأعتراف بالخطوات الأصلاحية التدريجية التي قام بها وفرض فيها شخصيته القوية ضد معارضة عنيدة من قبل اصحاب المصالح نقتصر فيها على ما يلي:
1- مشاكل الغوص والسخرة وأصحاب سفن الغوص وقروض الغواصين (التسقام) وما يتفرع عنها.
2- التطوير التدريجي بالتعليم الأبتدائي ثم الثانوي للبنين وللبنات. رغم أن ما كان يخصصه لموازنة التعليم أقل من الشرطة والأمن وأحيانا أقل من مخصص الصحة العامة.
3- النزاهة والشفافية في الشؤن المالية للحكومة، حيث دأب على نشر موازنة الحكومة ومصروفاتها ومواردها المالية على لوحة الأعلانات في الاسواق ثم في جريدة البحرين عند صدورها كذلك.
4- أنشاء دائرة الأوقاف الجعفرية في وجه معارضة من رجال الدين. بل أنه أضاف الى ذلك مبدأ أنتخاب الجمهور لأعضاء مجالس الأوقاف عن طريق الأنتخاب السري الحر والمباشر بالبطاقات ابتداء من عام 1933 ثم تلى ذلك فيما بعد أنشاء دائرة الأوقاف السنية.
5- أنشاء دائرة أموال القاصرين في وجه معارضة مشتركة.
6- الأهتمام التدريجي بالصحة العامة وبناء المستشفى والمستوصفات والمراكز الصحية ومكافحة أمراض الملاريا والجدري والتراخوما والأمراض التناسلية.
7- أستلام المستشار زمام الأمور بنفسه لفرض نظام التموين بالبطاقات خلال أزمة نقص الأغذية ومواد التموين أثناء الحرب العالمية الثانية (1938 -1944) .. وحين امتنع التجار عن استيراد المواد الغذائية وجه الحكومة لاستيراد تلك المواد لا سيما الرز والسكرّ والشاي والقمح، وبيعها بسعر التموين تفاديا لحدوث مجاعة في البلاد كما سمح للسفن الأيرانية بالمجئ الى البحرين وشراء الشاي والسكر مقابل جلب الأغنام والخضر والبصل والبطاطة للبحرين.. وحين امتنع القصابون عن ذبح المواشي وبيعها، وأغلقوا دكاكينهم تولت البلدية والشرطة بيع اللحوم للجمهور بأسعار التموين. ومع كل ذلك يعترف المستشار في تقاريره اسفا، أن عددا من الأشخاص الفقراء في بعض القرى ماتوا بسبب الجوع في أيام الحرب.
8- المصالح الحكومية الأخرى كالشرطة والجمارك والهجرة والكهرباء والتلفون والماء حظيت باهتمام كبير من المستشار وله فضل المبادرة بأنشائها منذ البداية .. حيث عمد الى تخصيص مبالغ احتياطية لأنشائها قبل سنوات عديدة من تنفيذها. (كانت موازنة البحرين اوائل الثلاثينات قبل النفط تقارب المليون روبية هندية أي حوالي مائة ألف دينارا).
9- تصدى المستشار للفساد المالي ونقص الذمة المالية والتلاعب بنصيب اليتامى في التركات والاستيلاء على أملاك الأوقاف والتسلط على أملاك الغير ونهب الاراضي من أصحابها…كما تشير الى ذلك تقاريره السنوية.
لقد ورث بلجريف تركة الميجر ديلي من قبله والذي تضاربت حوله الآراء، كما عاصر المستشار بلجريف ثلاثة من حكام البحرين وهم الشيخ عيسى بن علي الخليفة والشيخ حمد بن عيسى الخليفة والشيخ سلمان بن حمد الخليفة، وقد حصل من الأخيرين على المساندة اللازمة لتكوين الجهاز الأداري الحكومي وأنشاء الخدمات العامة، واستفاد من مباركة حكام البحرين لخطواته في التغلب على معارضيه أو من يعتبرهم خصومه. ويرى بلجريف كذلك أن رئاسة الشيخ عبدالله بن عيسى الخليفة للتعليم كانت عونا له في تنظيم دائرة المعارف بالشكل الذي راه مناسبا بما في ذلك تعيين حرم بلكريف مديرة عامة لتعليم البنات.
وبعد – فأن أول لقاء شخصي بيني وبين السيد شارلس بلجريف حدث صدفة وذلك خلال زيارتي لمدينة لندن بعد منتصف الستينات قبل وفاته في عام 1970. وقد كنت على صلة بولده جيمس بلجريف والمعرف بـ (حمد) فزارني في فندق ريجنت ودعوته للحديث وتناول الغذاء، وبعد يومين اتصل بي تلفونيا وأخبرني أن والده يود رؤيتي ووصف لي منزل والده، فذهبت لزيارته في بيته حيث استقبلني بالترحاب وأجلسني بقربه في حجرة صغيرة، وقدم لي من الكعك الأسود (فروت كيك) وقد ذهب منه الكثير وبقي القليل .. وبادرني بالقول معتذرا أن المدام ليدي بلجريف ذهبت لشراء بعض الحليب وارجو انتظار عودتها لتصب لك الشاي بالحليب لكن على طريقة الأنجليز وليس العرب .. ولما وجد علامة الأستغراب على وجهي أكمل كلامه قائلا : نحن الإنجليز نقول (هل يمكن ان اخذ قليلا من الحليب في كوب الشاي؟) أما أهل البحرين فيقولون (هل يمكن أن اخذ قليلا من الشاي في كوب الحليب).
ثم أضاف ضاحكا: لقد جاءنا زوار من البحرين هذا الأسبوع وقضوا على ما في البيت من حليب .. وفي هذه الأثناء وصلت الليدي بلجريف ومعها شئء من الحليب فبادرتها قائلا: هل يمكن ان اخذ قليلا من الحليب في هذا الكوب الكبير من الشاي .. ثم ضحكنا معا … سألني بلجريف عن البحرين وأهلها وعن اخواني وخص بالسؤال عن معارفه من تجار البحرين واحدا واحدا ولم يتطرق ألى شأني الخاص أو الشأن العام بشئ. ثم قال ما معناه أنه يعيش حياة هادئة ويقضي وقته في النهار يصلح في حديقة كنيسته التي ينتمي اليها ثم في القراءة الخ .. وعند استئذاني بالأنصراف تجول معي في منزله المتواضع وأراني ما جلب معه من البحرين من تحف مثل الصندوق (المبوت) والأبواب التقليدية والفخار والسجاد والصور التي رسمها أو التي أهديت اليه، وغيرها من المقتنيات المتواضعة.
ثم ودعته وأنا أقول لنفسي لو أن غيره على ما كان عليه من سلطان ونفوذ خلال 31 عاما في البحرين لاستطاع أن يجمع ثروة هائلة. ولما طلب مساعدة الحاكم لشراء هذا المنزل المتواضع بعد تقاعده ..
.
بقلم: تقي محمد البحارنة