سيروا في الأرض
علقت نفسي بالأسفار،منذ نعومة الأظفار. أسفار برفقة والدي الى العراق في الصغر و تجوالي في الأمصار والاقطار في شبابي وفي الكبر. طفت حول الكرة الأرضية أربع مرات، وتجولت في مناكبها بالمات والعشرات. وكتبت عن بعضها نثرا، وأوفيت كثيرا منها شعرا. ومما قلته في ذالك هذه الأبيات:
قد همت بالأسفار أعشقها غراما مستحيلا
كم سابقت خطوي الشموس فكدت اسبقها وصولا
ولكم تحملت الفراق ولم أطع فيه .. عذولا
حتى أذا هاج الحنين بخاطري .. وبكى طويلا
بادرت يا وطني اليك ..فلم تكن عنّي بخيلا
ونهلت حبك موردا عذبا وماء سلسبيلا
أول سفرة لي حول العالم كانت في عام 1962 استغرقت اربعة شهور.وهي سفرة شاب في الثانية والثلاثين من العمر.تستفزه رغبة عارمة للتعرف على عالم جديد بعيد خارج الأوطان. أبتدأت الرحلة الجوية في 12 أبريل على الطيران البريطاني بي.اي.او سي. الى هونغ كونغ مع توقف في سنغافورة.ولكن الطبيعة في البحرين في هذا التاريخ كانت عاصفة مليئة بالغبار الذي تقل فيه الرؤية ..فتأخر وصول الطائرة ريثما تنجلي الرؤية حتى ما بعد منتصف الليل ووصلت المطار القديم متشوقا وهم الرحلة بين عيني. وأذا بقبطان الطائرة نافخا ريشه ملازما لمكتب تسجيل المسافرين.قلب نظره في الجواز وأمرني بالعودة الى البيت لانه لم يجد رخصة التاشيرة (الفيزا) للذهاب الى هونغ كونغ. وحاولت اقناعه بأن وكيل السفريات أكد لي بعد زعمه انه راجع دار المعتمد البريطاني .. فقالوا له لاحاجة الى رخصة الفيزة لمواطني البحرين. ثم القى الجواز بحضني بشيء من الغضب، وكتب لي اقرارا بأنه منعني من السفر ويتحمل مسؤولية ذالك. أخذ بخاطري المسئول في دار الأعتماد البريطانية وأعطاني التأشيرة وسافرت يوم 14 من أبريل الى هونغ كونغ.
وصلت المطار الصغير الكائن في شبه جزيرة في قلب مدينة هونغ كونغ. وكنت فرحا عند وصولي بأن القي عصا التسيار في بلد يستضيف الزائرين، فأذا الأمر بالضد.فقد لقيت ضباط أمن كالزبانية يأمرون ولا يؤمرون.من هؤلاء ضابط ذو نياشين على كتفه،يأمر المسافرين بلهجة حادّة قائلا: من عنده تأشيرة يصطفف على اليمين، ومن ليست لديه تأشيرة يبتعد الى اليسار.فقلت في نفسي لو لم يمنعني قبطان الطائرة في البحرين لأصبحت اليوم من أصحاب اليسار .. وما ادراك ما اصحاب اليسار.. تفحصني جيدا قبل أن يتفحص جوازي وأمرني بالدخول وكأن هونغ كونغ جنة يكفيك شرفا أنه افسح لك الطريق اليها. وقلت في نفسي ليت رضوان خازن الجنان يوم القيامة،يعطيه درسا في حسن استقبال من هم من أصحاب اليمين.. وللجمارك في فحص الأمتعة شأن عظيم.ولم يكن لدواعي الأمن وهوس الأسلحة والارهاب،الات فحص بالأشعة أو بالأيدي كما هو شأن اليوم.
هونغ كونغ في ذالك الزمن كانت صغيرة وليست عصيّة على ذرعها بالاقدام. ومع ذالك كان فيها من ازدحام الشوارع والأحياء والاسواق ما هو شبيه نسبيا بما فيها اليوم.أغلب سكانها صينيون وبعدهم من جاليات الهند.
هونغ كونغ في 1962:
نزلت في فندق في الأحياء الصينية واعجبني اسمه الشاعري (صن راي) أي شعاع الشمس.وجدت فيه خدمة جيدة ولم اجد فيه شمسا.وكان أول هميّ الحصول على تأشيرة دخول لليابان. قيل لي أنها سوف تستغرق 15 يوما أو أكثر.ولكن صديقي العزيز في اليابان رجل الأعمال جاسم محمد الباقر من العراق، وهو الوكيل المعتمد لشركة متسوبيشي الكهربائية حتى يومنا هذا، استطاع بمهارته واجادته اللغة اليابانية ان يستخرجها في أقل من اسبوع. لقد بلغ به التشوق لملاقاتي أن يغادر مكتبه ويلاحق معاملة التأشيرة في وزارة الداخلية اليابانية ثم في محاكم القضاء ثم وزارة الخارجية. وكان القضاء يتطلب حضوره شخصيا لأداء القسم امام القاضي .
ألبسها .. وتوكل :
بينما كنت أتجول في في أسواق هونغ كونغ لابسا بدلتي الأفرنجية الوحيدة التي فصلتها في البحرين، أمسك بزمامي أحد الصينيين من خياطي اطقم البدلات قائلا : سوف اصنع لك بدلة كاملة من ثلاث قطع أحسن من التي تلبسها.قلت ما عندي وقت، قال انجزها في 24 ساعة فقبلت. دفعت المقدم من الثمن واخترت قماشا من صوف خفيف يسمى (موهير) لعله من شعر الماعز اللّماع.وجاءني في غرقتي في الفندق عند المساء وجربها علي مقطوبة بالخيوط، وسلمها لي كاملة عند ظهيرة البوم التالي. فكنت الازمها في بقية أيام سفري مع ربطتي عنق جاهزتين معقودتين تتسع الواحدة منها او تضيق حسب المطلوب !! ثم اشتريت من البائعين الهنود كامرة تسجيل سينمائي 8 ملم. ماركة (كانون) في اوائل عهد انتاج الكاميرات الشخصية. وكان لها شأن كبير في حياتي.سجلت بها معظم اسفار الخارج واهم المناسبات العائلية .وهي تحمل بكرات تسجيل في حدود اربع دقائق. وشغلت نفسي حين رجعت الى البحرين في الصاق تلك البكرات وقطع المناظر المشوشة ثم تحميلها في بكرات كبيرة من حجم 8 ملم. وعرضها على الشاشات في نادي العروبة ومع العائلة والأصدقاء ومن بينهم وزراء هامّون من البحرين.واضفت بذالك هواية التسجيل الصوتي الى السينمائي.
ثم دلفت الى سوق الصيارفة واذا بسعر صرف الدولار يختلف من محل الى اخر فاخترت من وجدت عنده احسن الأسعار.استلم الدورات وخبأها واعطاني بحسب السعر الممتاز مخصوماً منه مبلغ سعي مقداره 5% فاصبح الدولار يثمن بخس اقل من غيره فلما اعترضت بسبب ان لافتة السعر بالأنجليزية ليس فيها خصم اشار الى لافتة باللغة الصينية قائلا سعر الخصم فيها مذكور والمعاملة تمّت و ليس فيها نكوص.
في هذه السفرة وجدت أن مدينة هونغ كونغ بمثابة مركز عالمي للتسوق الشخصي لاسيما القادمين من القارة الأمريكية بسسب أن الاسعار المعروضة في أسواقها اقل من اسعار المنتجات ذاتها في بلدها الأصلي. لكن المتسّوق غير الحذر كثيرا ما يقع ضحية للتلاعب أو الغش.
ملامح من هونغ كونغ:
صرت أذرع الشوارع في هونغ كونغ (كاولون) قاصدا اغلب الأحيان أكبر فنادقها وأشهرها ومن أقدمها (تأسس في عهد الأنجليز عام 1928) واسمه (باننسولا هونغ كونغ)المطل على البحر.تأخذني في الطريق دهشة العمران الشاهق وتخمة الأثرياء – وتذيب نفسي أحوال الكادحين و ذلة الفقراء.بينما يكاد الناظر من شاطيء البحر أن يلمح جزيرة (مكاو) الخاضعة انئذ للأستعمار البرتغالي.حيث تقيم ساحة لعب القمار (الكازينو) في قاعة بسيطة كبيرة تعلوها قبة واسعة يجتمع فيها اصحاب الثراء مع الجمهور الكادح نساء ورجالا ممن يوفرون من مدخولهم الشهري لأنفاقه في القمار طمعا في ربح كبير وحظ عظيم . وقد وجدت تلك القاعات مثقلة بسحب دخان السجائر في جو من الضجيج والصراخ ..فاتجهت لتفقد انحاء مكاو فكانت مجرد حوانيت ومساكن متواضعة البناء.ولم يدر بخلدي انها سوف تصيح كحالها اليوم معلما دوليا للسياحة والترفيه ومرتعا خصبا للعب القمار بعد استقلالها وعودتها الى احضان الصين.
بانينسولا فندق على الطراز والذوق الأنجليزي، يصرف للمقيمين ست وجبات في اليوم. الشاي والقهوة والكعك في الفراش في الصباح الباكر، وافطار كامل بعدها، ثم شاي او قهوة في ضحى اليوم ثم وجبة الغذاء وبعدها العشاء وبعد كل ذالك وجبة ما قبل النوم.ولعله اليوم قد بدل تلك العادات حسب مقتضيات العصر. وكان يعجبني تناول قهوة ما بعد الظهر بما يتبعها من بسكويت ومعجنات وابتسامات لطيفة. في طريقي الى ذالك الفندق جاءتني صدفة خير.تقابلت صدفة مع الشاب محمد بو خمّاس .وشركة بوخماس ومالكيها كانت مجاورة لمحلنا على امتداد شارع الشيخ عبد الله في سوق المنامة.نتزاور ونتحاب ونحن نرتشف فناجين القهوة والشاي من المقهى المجاور.كان صاحب المقهى يعمم رأسه بغترة (شماغ) سوداء باعتباره سيدا في نسبه، وكنا نحترمه رغم مزاجه الحاد،وهو يغرينا بتمسكه بالنظافة وغسل الأكواب بعناية.
كانت فرحة لقائنا عارمة متنامية المشاعر بين الصداقة وألفة الغربة. قال انه مثلي ينتظر تأشيرة السفر الى اليابان وأنه سوف ينتظر لمدة 15 يوما. فصار سفري لليابان قبل سفره. وفي هونغ كونغ طاردني طيف الوطن وفراق الأسرة، وولدي أسامة في شهره الثاني بعد الولادة ..وهزني الشوق فارسلت لأمه هذه الأبيات:
"أسامة " تسلو به أمه *** أن غاب عنه والد في السفر
عيناه .. عيناه وفي وجهه *** شبه وفي المبسم منه أثر
يرفرف الحب على مهده *** ويكبر الحبّ اذا ما كبر
هكذا أخذتني تلك السفرة الأولى حول العالم في 1962 الى المحطة الأولى في هونغ كونغ ثم تلتها محطّات ومحطّات أشبعت ذاكرتي الفتية بمشاهد من المدن والبحاروضفاف الأنهار وشوامخ الجبال ذوات الرؤؤس البيض والخضر واوديتها المزهرة فاتنة الجمال – في عشرة مع المعارف والأصدقاء، أو في وحدة تسلو النفس بعجائب المشاهد السياحية. واصبح حالي كما وصفة الأديب الشاعر عبد الرحمن القصيبي حين قال:مشكلتي الحقيقية ليست النسيان،مشكلتي كثرة الذكريات.
حاولت أن أطأ أكثر عدد من المدن والبلدان تسمح بها تذكرة سفري حول العالم والتي تشترط مواصلة السفر في اتجاه واحد نحو الشرق دون رجوع الى الخلف.الى أن استقر في البلد الذي سافرت منه.لأكون –ربما- شاهدا على كروية الأرض واستدارتها. وما خرج عن خط الرحلة تحملت تكلغته - ومدن تلك البلدان جاءت على النحو التالي:
(اليابان – جزائر هانولولو – لوس أنجلوس – دزني لاند – لاس فبجوس – سان فرانسسكو – سياتل – شيكاجو (أيوا) واشنطن – نيويورك – شلالات نياغرا- تورنتو كندا –لندن – بلجيكا – هولندا – الدنيمارك - هامبورغ – فرنسا – أسبانيا –روما – اليونان – بيروت – العراق – الكويت – البحرين).
دهشة المدن الأولى:
زيارة مدينة او بلاد بعيدة للمرة الأولى لها طعم خاص كطعم الفاكهة التي لم تذقها من قبل ..تقف أمامك تلك المدن شامخة وانت وحيد . تسترشد يالأدلّاء بدلا من الأصدقاء. تلقاك في كامل زينتها مثل فتاة متبرجة ولا تعرف بواطنها ألا بتكرار الزيارة حين تفتقد في نفسك منها سحر العينين الغامضتين.. تلازمك الدهشة حيثما تسير. ويستولي عليك الحذر من المجهول. الزيارة الأولى تبقى في النفس والزيارات المتكررة بعدها تفتقد تلك الدهشة الطفولية العفوية أمام عالم لا تعرفه حتى تكتشف سره سرا يعد سر.
وأراني لتلك الأسباب مندفعا لسرد ذكرياتي الأولى لمشاهداتي في اول مواعيد لقائي بساحات تلك المدن والبلدان. – ألا فيما ندر - أما مدى التغير والتطوّر والتقدم الحاصل بعد ذالك فلم يصبح له الان سرّ ولا سحر بفضل تنوع وسائل العلم والمعرفة وامتداد شبكة الأتصالات. ومن تلك المدن والبلدان بلاد اليابان.
أرض الشمس المشرقة:
كانت اليابان تحمل هذا اللقب لقربها من خط التوقيت الدولي خيث تشرق الشمس غلى الغرب في يوم يختلف فيه التوقبت الدولي بين ما يقع شرق الخط وغربه.فأما ان تكسب يوما من الأسبوع أو تخسر يوما حسب الأتجاه. وتسلم شركة الطيران لمن يعبر خظ التوقيت الدولي في أي اتجاه شهادة موقعة ومختومة. والمفروض أن تكون عندي منها اربع شهادات لا ادري اليوم اين وضعتها بعد تلك السنين.
أليابان: من أين نبدأ؟ كانت هي الزيارة الأولى. من هونغ كونغ توجهت الى اليابان في 18أبريل 1962. تبعتها زيارات متعددة بعضها للأعمال التحارية وبعض للمشاركاة في مؤتمرات اتحاد شركات التأمين كوني نائبا لرئيس شركة التأمين الأهلية في البحرين ثم رئيسا لها. وللمعلومات، فاليابان اسسها الأمبراطور (جيمو) سنة 660 قبل الميلاد. وتأسست الملكية فيها بعد الحرب العالمية الثانية أبان احتلال أمريكا لليابان في 3 مايو - 1947. ونسبة التعليم بين سكانها تساوي في عام 1991 نسبة 99% !!
وأهم مدنها : طوكيو – العاصمة / أوزاكا – مركز التجارة /يوكوهاما – الميناء المهم في صناعة السفن / كوبه – ميناء / ناجويا / ساموورو / كيوتو : حيث المعابد وتماثيل الالهة / هيروشيما ونجاشي – المدمرتين بالقنابل الذرية الأمريكية / ونيكو – مقصد السائحين للطقوس الدينية (الشنتو) / وجبل فوجي – مقصد السواح حيث تغطي قممه الثلوج طوال العام.
أصبحت اليوم المعلومات المتعلقة بالنظام السياسي والأقتصادي والأحوال الاجتماعية، ومزايا تلك المدن وغيرها من مدن اليابان – اصبح كل ذالك في متناول اليد لمن يقلب الأوراق ومن يفتح شبكات الأنترنت كما اصبح من يقصد اليابان للسياحة والتعرف عليها مثقلا بالمعلومات وهو في حبرة من أمره وكأنه يقول : من أين نبدأ.. فلا داعي أذن لمزيد من الشرح.
أما توجهي انذاك لليابان فكانت له ثلاثة أغراض: الأول تجاري لملاقات الصديق جاسم الباقر وكيل شركة (متسوبيشي الكهربائية) وزيارة معارضها ومصانعها ومواقعها. وهي تنتمي الى مجموعة شركات متسوبيشي العملاقة التي تحتضن معظم الصناعات من طيران واسطول بحري ومصانع حربية (طائرات " زيرو" التي كانت تقصف الأساطيل الأمريكية بالطريقة الإنتحارية في الحرب العالمية الثانية .. كانت من صنع متسوبيشي) بالأضافة الى مصانع الإنتاج الاستهلاكي الصناعي والبنوك وشركات استثمار وغيرها.
الغرض الثاني هو السياحة والإطلاع على معالم اليابان السياحية واحوال المدن والسكان. والغرض الثالث الإستجمام في منتجعاتها الصحية والاستشفاء بمياهها المعدنية الساخنة.
المطار اللذي يبتسم:
وطأت أرض مطار طوكيو البعيد نسبيا عن العاصمة. ووجدت الصديق الباقر في انتظاري،وقد خفف من وعثاء سفري اثناء معاملات الوصول في المطار -- تلك الإبتسامات والانحناءات امامي وكلمات الترحيب والشكر باللغة اليابانية (دومو اريكاتو كوزيمش). وكان الفندق الذي اختاره لي الصديق في قلب طوكيو قبل التوجه الى مكتبه في اوساكا..هو الفندق المشهور القريب من قصر الإمبراطور .. فندق (أمبريال هوتل.). كان افطار الصباح شهيا بقاعته التقليديه ومنظر الحديقة امامه ولطف الاستقبال من قبل السيدات باللباس التقليدي الياباني وحسن المعاملة من الموظفين . واعجبني صحن (الوفلز) تلك العجينة المخبوزة على شكل خلايا النحل. نملؤ اجوافها بالعسل او (السيروب) المستخرج من بعض الأشجار ..عملية شاعرية يسيل لها اللعاب.
الصديق جاسم الباقر رجل أعمال متمرس يعرف من أين تؤكل الكتف .يستضيف المسئولين في شركة متسوبيشي بكرم بالغ.وعلى الموائد وهو مضيفهم، تراهم على عادة أهل اليابان والصين – وهم يلتقطون طعامهم على مهل. بأقلام العصيّ اامخصّصة -، يستفيدون من الزمن البطيء في ترتيب افكارهم وأجوبتهم وبعض النكات الساذجة. وحينما ينشغلون ظاهريا بتلك الأعواد الخشبية أو الفضّية التي يتناولون بها افاضل الطعام ثم يلاحقون اخر ما يتبقى في الصحن من حبة رز أو قطع صغيرة متناثرة بمهارة عجيبة وبتأن وهدوء وكأنهم يقولون معنا (رحم الله من نظف الأناء.)وفي هذا الجو من الألفة والأنسجام، وعلى انخاب الشراب .. أو فيما بعد – يستطيع اخونا الباقر أن يسمعهم بطريقة ودية بعضا من مطالبه بالنسبة للأسعار أو الخدمات.وهم يهزون رؤؤسهم ولا تدري هل ان ذالك يعني الموافقة او غير ذالك ..فلا بد لكل مسئول ياباني أن يراجع مديره قبل نعم أو لا.
ومع الأصدقاء، لا تفوت الباقر مواقف التنكيت على الأقوال والأفعال.وعنده قدرة على اكتشاف نقاط الضعف مع الصديق واستعمالها (كمقلب) في بعض المواقف المسلية. كنت أصر عليه دائما بالحضور المبكر عند السفر معا في القطار من طوكيو الى الى اوساكا وبالعكس.فكان يتعمد التأخر عن موعد سفر القطار حتى اخر دقيقة..ويعجبه منظري وانا اجري خلفه لركوب القاطرة وقد بدأت بالمسير ليدفع اجرة التذاكر للمحصّل في القاطرة بدلا من شباك التذاكر المزدحم.
ويحضرني بهذه المناسبة مثال اخر .. حين استضاف الباقر أخي صادق وكان يأخذه في سيارته لمشاهدة جمال الطبيعة على مرتفعات الجبال ومنحدراته المخبفة، ويطلب من اخي صادق أن يستدير برأسه لمشاهدة المناظر والوديان وأغلب الظن أنه يعلم أن اخي يعاني من الم في رقبته واخي يجيب :السيارة ترينا تلك المناظر دون الحاجة الى أن الوي رقبتي لرؤيتها.
ومثال ثالث حين كان يمشي في الشارع مع رجل أعمال من الخليج مقيم معه في اوساكا متعود على (البصبصة) للفتيات يروي لنا قصته معه وهو يسترسل ضاحكا : فيقول.أسأله وأنا عارف بميوله - ما الذي اعجبك في هذه الفتاة وليست جميلة – فيجيبني اعجبتني رقبتها، والثانية بغير جمال أعجبه قوامها،والثالثة مثلهما أعجيته سيقانها. أما التي ليست لها رقبة جميلة ولا قوام ولا سيقان فكان جوابه: أعجبتني أخلاقها..وكيف عرفت اخلاقها وهي تمشي فيقول: أنها الفراسة والحّس الداخلي ..!! والباقر مع الاصدقاء، كريم الوجه واليد واللسان – على عكس قول الشاعر المتنبي – من اصدقائه التجار المقيمون في أوساكا – نفر من اطايب الأصدقاء معظمهم جاء من سوريا ولبنان اغلبهم في تجارة الأقمشة والمنسوجات أوصيارفة عرفت منهم: ألياس عجلون وجون شهود وفيليب عجلون – محمد اللبابيدي – والسيد عوني - وأميل شلهوب.كان يستبقهم في معظم المناسبات بدفع فواتير الأكل والشراب أوالأقامة بسبب اتقانه اللغة اليابانية وسرعة مبادراته
للتفاوض مراسم وفنون :
التفاوض مع الشركات في اليابان ومدرائها الكبار له في اليابان تقاليد وأصول. يستسيغها رجال الاعمال الشرقيين لما فيها من لمسات الألفة ويتذمر منها رجال الأعمال من أهل الغرب وبالأخص الأمريكيين لأنهم اهل عجلة من أمرهم و لاعتيادهم على الأتصال المباشر في عصر السرعة وكون الوقت عندهم من ذهب. ولاكتظاظ مواعيدهم في وقت ضيق وقصير. كتب لي الصديق الباقر حين زار امريكا وقال بهذا الخصوص :جعلتني هذه السفرة احترم طريقة العمل في اليابان أكثر من السابق.
وقد جرت محادثاتي مع المسئولين في شركة متسوبيشي على النحو التالي:
تأخذك فتيات الأستقبال عند وصولك الى صالة استراحة.حيث تستضاف بمناشف الوجه حارة او باردة وبالشاي الأخضر او الاصفر الياباني مع قطعة من حلاوة (التوفي) مشفوعة بابتسامات وانحناءات وكلمات الترحيب حتى تقرّ عينك وترتاح أعصابك.وسيتسنى لك وأنت تنتظر.. تقليب بعض الصفحات عن نشاط الشركة أو التمعن في الصور على الجدران.ثم يأتي نائب المدير العام وبعد كلمات الترحيب يبدأ بسؤالك عن أسمك وعنوانك ويتبادل معك بطاقة الشركة مع عدد من الأنحناءات والايتسامات. ثم يسألك عن الغرض من المقابلة وموقعك من الشركة التي تمثلها. وهو يكتب كل ذالك ويأخذ ورقته الى مكتب الرئيس.ويغيب عنك حتى يأذن رئيسه بالدخول. وقد أوصاني الصديق الباقر فنفذت وصاياه وكانت توصياته كالاتي: (في لقاء المدير العام تقدم لك مجددا مناشف الوجه والشاي و يكون الحديث حديث مجاملات و في امور عامة يسألك عن بلادك وعن الطقس وعن حسن اقامتك في اليابان وما شابه.. لا يسألك عن امور شخصية ولا تبحث معه تفاصيل اغراض المهمة التي جئت من أجلها، فقد أعد لهذه الأمور مختصين ومهندسين تبحث معهم المواضيع التي تريد مناقشتها بعد انتهاء المقابلة.وكأني توقعت مثل هذا الجو قبل سفري من البحرين فقدمت له هدية معنوية بدلا من هدية مادية.كانت عبارة عن لوحة رسم زيتية من رسم الفنان كريم العريض. تطلبت مني خلال السفر اقصى الحذر أن لا يمسها سوء.وقد فرح بها وشكرني فوق ما تصّورت.
تفاوض يشبه الإستجواب :
لم أكن أتوقع أن اجلس على رأس طاولة مفاوضات في مقابل أعداد من المختصين والمهندسين لكل نوع من منتجات متسوبيشي التي كنا نستوردها للبحرين وقطر. طاقم للثلاجات واخر لمكائن الخياطة وثالث للتلفزيونات – في أوائل عهدها- واخرون لمراوح الطاولة ومراوح السقف – وكانت الأكثر رواجا انذاك. كل جهة أعدت لي سيلا من الأسئلة لابد أن اجيب عليها قبل أن ابدأ بملاحظاتي ومطالبي بالنسبة للأسعار والخدمات وغير ذالك.واستغرقت تلك الإجتماعات تسع ساعات متواصلة دون انقطاع فيما عدا فترة تناول (السندويج) في وقت الغذاء. ولكل طاقم كاتب يدون المحضر في زي مترجم وحقيقة شاهد على ما يدور من كلام. الأمر الذي اعاد الى ذاكرتي ما حضرته من اجتماعات تجارية في الدول الاشتراكية حين يكون المترجم عينا على الحاضرين عند جهات المراقبة الرسمية.
أبتكارات متسوبيشي :
لا يخلو منزل أو مكتب في اليابان من منتجات شركة متسوبسشي (وتعني الكلمة ثلاث نجمات بشكل المعين). إبتكرت متسوبيشي في عام 1962 أول تلفزيون صغير(ميكرو) بشاشة 6 بوصات للتركيب على المقاعد الخلفية للسيارات، أو لاستعمالها في التنقل اعتمادا على البطاريات فيها. كما ابتكرت أول كامرة فيديو يمكن مشاهدة مناظرها على شاشة التلفزيون. وتبتعتها بعد ذالك شركة (سوني) المشهورة. وقد وجدت ضالتي المنشودة في هذين الإختراعين. بعد ما يقرب من عام ستكون البحرين على موعد يترقبه الجمهور لافتتاح معرض البحرين التجاري الثالث في حديقة الأندلس في شهر مارس 1963 – بامتياز عما سبقه بالنسبة للمكان و المساحة والشركات والمنتوجات.وقد حجزت شركتنا موقعا مناسبا في ذالك المعرض سوف نصممه على شكل معبد ياباني (باكودا) للفت الأنظار.
لعب التلفزيون الميكرو الصغير وكاميرة الفيدو دورا كبيرا في اجتذاب الزائرين ودهشتهم لهذين الإختراعين لأول مرة في البحرين. كانوا يتزاحمون لمشاهدة انفسهم لأول مرة على شاشات التلفزيون ويقومون بحركات استعراضية او الرقص احيانا رجالا ونساء وأطفالا. وتزاحم جمهور اخر لمشاهدة الأفلام السنمائية التي سجلتها في رحلتي من الكاميرة السينمائية التي اشتريتها من هونغ كونغ. وأهم تلك المناظر كان تغطيتي السينمائية لمعرض (أكسبو) الدولي في مدينة (سياتل) الأمريكية. وتضمنت تلك المشاهد العاب السرك والمشي على الحبال (الاسلاك) ومن على ظهر الدراجات من مرتفع شاهق وخطير ببراعة مدهشة.
وقد استفدنا من خبرة المهندس الكهربائي المرحوم "عباس حفاظ" في تركيب تلك الأجهزة وتوصيل أسلاكها وصيانتها. كان الخبر الذي حمل الينا السرور زيارة معرضنا من قبل صاحب العظمة امير البحرين الشيخ عيسى بن سلمان ال خليفة.الذي أبدى أعجابه بالمعرض وأمر بتركيب الكاميرا والفيدو في احد القصور..وقام السيد عباس حفاظ بتنفيذ ذالك بعد انتها المعرض. والمفاجأة السارة بعد ذالك أن معرضنا فاز بالجائزة الأولى واستلمنا كأسا كبيرة من الفضة تخلد تلك المناسبة.
عين رأت .. وأذن سمعت :
فتحت عيني في اليابان على وجوه شتى من البشر. معظمها وجوه ناضرة بالايتسامة، وأقلها ما فيها حزم وجهامة. تنحني لك الرؤؤس بالمجان ولا تقبل منك رشوة ولا احسان. لا تقول لك كلمة لا، الا وقبلها نعم. بنبرة فبها تأسف وندم. واللباس التقليدي للنساء فيه وقار وحشمة..طبقات من الحرير المزركش بعضها فوق بعض ورزمة من الأقمشة الموثفة بعناية وفنّ، تحت الرقبة بين المنكبين. ودبيب أقدامهن المتوازن كرقص (الباليه) يحكي فرحا ولا يختال مرحا.
في مدينة (كيوتو) ومدينة (نارا) في الدرك الاسفل من طوكيو، بعد أن تطوف بالمعابد والهة (الشنتو) تستدرجك روائح البخور الى حفلات تفدبم الشاي على التقاليد اليابانية العريقة. وسوف ترى كيف تجلس نساء (الجيشا) باللباس التقليدي الى طاولة الشاي على المسرح. ويجلس طالب الشاي في الجانب المقابل وكلاهما على هيئة رياضة التأمل (أليوجا) وعلى الجانب اواني أوراق الشاي الأخضر والأصفر وما هو مجتني من رؤؤس الجبال وهو اغلاها سعرا. والمضيفة تشغل نفسها بغلي الشاي – وكأنها لا تراك – تصبّه في ثلاث دلال أو أكثرمن النحاس أو الخبث، واحدة بعد الأخرى .وكأنها تستعرضه لأثارة الشهية أو الفضول.أو لاتقانها هذا الفن .عليك أن تتلقى كوب الشاي على راحة يدك وتديره يمنة أويسرة حسب الأصول ثم ترشف الشاي رشفا وليس شربا. وحفلات الشاي لها قدم راسخ في التراث الياباني منذ القدم.مقترنة بقيم اجتماعية وروحيّة. أما خصائص الشاي الياباني الصحية، فقد تاه في تحليلها العلماء.
وإذا حان وقت الرقص والغناء التقليدي على المسرح، فلا تتوقع فيه هز البطون..وأنما هن فتيات الجيشا أو كبارهن في السّن، بلباسهن الياباني وحركات راقصة بطيئة مع تموجات الأيدي والأجسام وغناء يصدر بعمق من الحناجر يحكي قصص حب وغرام. ترافق كل ذالك موسيقى وطبول وأشرطة ملونة تسبح في الفضاء..يشترك في ذالك العرض نساء ورجال بحسب الأدوار.
ونداء المعدة لا بد وان يلح عليك بعد طول تجول وحب استطلاع. أعجبني من المشهيات المقلية صحن (التامبورا) المشتمل على الربيان (الجمبري) والخضار وثمار البحر وما يضاف الى ذالك وكلها ممرغة بالدهون الخفيفة على المعدة. ومن الأكلات الصحية (الشابو شابو والساكي ياكي) لحوم وخضار ومشروم يتم تحضيرها في الماء المغلي استطيب شرب مائه ايضا كحساء لذيذ .ومن الأعراف اليابانية والصينية أن تشرب الحساء بصوت مسموع تعبيرا عن الأعجاب. والأكلة الثالثة التي أعجبتني هي (تابان ياكي) عبارة عن صاج مشواة كبيرة دائرية تتسع لثمانية أشخاص وربما أكثر. ومن تحته نار الله الموقدة. يجلس حول هذا الصوان الموقد أصدقاء أو غرباء يجمعهم نداء المعدة وتفتح شهيتهم روائح الشواء. وتتسمر أعينهم على منظر الشواء بلباسه الابيض النظيف،وهو يستعمل سكينه لتقطيع اللحم بمهارة وسرعة ثم مجرفته يتفنن فيها لتقليب اللحم في الهواء، ولكل من الجالسين قطعة اللحم التي اختارها يجرفها الشواء الى حضنه مع خليط من الخضار المشوية دون أن يتحرك الشواء من مكانه
ومن النصائح لمن يعجبه اكل الشواء من اللحم الكوبي والبقرات المدللة بالمساج اليومي لتليين عضلاتها بالبيرة وما شابه – أن يتلمس حافظة نقوده قبل أن يتورط في دخول المطاعم اليابانية المشهورة. في سفرتي هذه كانت التكلفة 120 دولارا للشخص أو اكثر مع الشراب.وسعر البطيخة المتوسطة الحجم كان 100 دولار..واسعار هذا الوقت قل فيها ما تشاء. ولا أنسى أكلة السمكة بكامل هيئتها منضوجة على البخار (ستيم فيش) منضودة بالأعشاب والبهار. بقية اصناف الماكل في اليابان كثيرة فيها من أكثرما يدب او يسبح أو يطير. أو ما ينبت من خشاش الارض أو على شواطيء البحار والأنهار. ومثل ذالك في بلاد الصين. وما كنت أتصور أن سمكا يحمل جسمه سما قاتلا للبشر أقوى من سم (السايونايد) سوف يصبح في اليابان مقصد الأثرياء ومصرع المغامرين بحياتهم احيانا. وأن لحمه من الغلاء بحيث لا تستطيح تحمّله الا جيوب أهل الثراء .واسم هذا السمك السام هو (فوجو) تستعمل مطاعمه المختصة اطباء جراحين لاستخراج السموم من السمكة وطباخين مهرة قبل تقديمها لمن يجتاز الزحام عليها. وأذا أخطأ الطبيب ولو قليلا، فاكتب على اكلها السلام.
فواكه لها طقوس:
سألت صديقي – وهو خلف مقعد السيارة – تجوب بنا بين الجبال والسهول والوديان رائعة الجمال – أرى مناظر على مد البصر لشجيرات ثمارها ناصعة البياض كأنها بعض الأزهار. فقال تلك هي فواكه (الفراولة) يحرص المزارعون على تغليف كل ثمرة منها بأحكام بأكياس من (البلاستيك) يحفظونها من الحشرات والغبار فتجيء كل حبة لامعة نظيفة لاكلها. وسعرها يتناسب مع الجهد المبذول فيها. أما ثمرة الكرز وأزهارها فلها شأن أكبر في تقاليد اليابانيين. وتسمى تلك الأزهار (الساكورا) ولهذه الكلمة عند اليابانيين مثل السّحر في النفوس. في موسم الربيع وحين تتفتح أزهار الكرز تقام المهرجانات في اليابان وأهمها مهرجان (شيباطا) للساكورا الذي يقام كل سنة في بداية شهر أبريل وذالك في محافظة (مياغي). وللساكورا شعار وطني ولها أغنية عريقة في التاريخ يحفظها اليابانييون عن ظهر قلب. حفظت تلك الأغنية فوجدتها تقرب نفوس اليابانيين لمن يحفظها أو جزأ منها ثم يشاركونه في الغناء فترفع الكلفة وتقوي الألفة وتكسب الأصدقاء.
(نيكو) وما أدراك ما هي:
نيكو مدينة في اليابان تتقاطر عليها أفواج السائحين والزائرين والمقيمين.لا تخلو من المهرجانات والإحتفالات الدينية بصبر وزخم من العابدين والقاصدين لتأدية مناسكهم الى المعابد والهياكل على دين (الشنتو) هناك مثل ياباني لكل زائر (لا تقل كيككو أن لم تزر نيكو) وأترجمها : لا تقل أنك شاهدت العجب في شعبان أو رجب .. ما لم تزر (نيكو). في نيكو كما في سائر اليابان طبيعة خلابة وشلالات المياه والينابيع لمن يستوحي الطبيعة الخلابة.. ولكن شهرتها الأكبركونها موطن المعابد والهة الشنتو وطقوس الإحتفالات الدينية العابدية. تمر أمامك في شوارع المدينة هياكل كبيرة ومعابد ثقيلة الوزن من الخشب الصمّ بلا عجلات يحملها عدد كبير من الحجيج على الأكتاف ومظهر الجهد والعناء على وجوههم يذكرني بقول ابي الطيب المتنبي :
أتوك يجرون الحديد كأنما *** أتو بجياد ما لهن قوادم
زرت فيما بعد أحد المعابد برفقة الصديق الباقر ورايت المصلي كيف يصلي. ينخني كثيرا امام الكاهن القابع على هيئة اليوغا في اخر القاعة امام تماثيل الالهة ثم يقرع الجرس المتدلي من فوقه على طاولة النذور، ثم يصفق بيديه لإلفات نظر الكاهن، ثم يضع في الإناء ما أتى به من نذر ثم يفتح كفيه ليتم بحاجته التي يريدها من الآلهة .ثم ينحني ما شاء من انحناءات قبل أن يغادر المعبد ما شيا الى الخلف ووجهه الى الكاهن من باب الإحترام والتقديس.
علّق صديقي دون أن أساله قائلا : معظم ما يطلبه العابدون من الالهة هو المزيد من المال ثم الصحّة. ويدور في نفسي هذا السؤال: (كيف استطاع اليابانيون الجمع بين تقاليدهم وعاداتهم الموروثة وبين التقدم الحضاري في شتى المجالات . مع الاحتفاظ بلغتهم والإصرار عليها).
نماذج من حسن الأخلاق:
- ضللنا طريق السير من كيوتو الى أوساكا . وقفت لنا سيارة شخصية وقادتنا الى الطريق الصحيح . وقبل أن يفارقنا السائق وقف عند حانوت واشترى من جيبه (أيسكريم) للصغار وأزهارا لأمهم وانحنى وهو يقرؤنا السلام.
- سيّرت اليابان أول خط قطار سريع (هاكاري) بين طوكيو وأوساكا تصل سرعته الى نحو 250 كيلومتر في الساعة .يضمن للمسافرين أن لا تندلق المشروبات من أكوابها بسبب السرعة واجراء مكالمات هاتفية وهم في القاطرات، ومقاعد مريحة بعضها تقوم بالتدليك (المساج) وفي قاعات الوصول اجهزة تزود المسافرين المتعبين باستنشاق الاوكسجين. ونسيت في قطار طوكيو كامرة السينما العزيزة على المقعد. أخبرت مكتب الإستقبال عن مصيبتي وقد مرت الساعات - وأنا بين اليأس والرجاء. كتبوا لي عنوان مكتب المفقودات ولم اصدق نفسي حين وجدتها خلافا لما مر بي من تجارب مشابهة في بلدان اخرى.
- سيارات الأجرة في اليابان نظيفة مقاعدها مغطاة بأثواب بيضاء يتم تبديلها من وقت لاخر. بينك وبين السائق نافذة زجاج . لا يسمح بالجلوس جنب السائق. يعطيك الفندق اسم المكان الذي تقصده باللغة اليابانية وبطاقة اخرى بعنوان الفندق. يوصلك السائق الى مكان العنوان دون أن يسألك اين يكون او بقرب اي مكان معروف. تدفع الأجرة كما هي في العداد ولا يقبل منك اكرامية (تيب) ورفض استلام الإكراميات تقليد في اليابان.
- أوقف شرطي المرور سيارة باص تنقلنا الى مصانع لمتسوبيشي. طلب من السائق أن ينزل معه الى نقطة المرور. مكثنا ساعة أو أقل ثم رجع السائق وواصل المسير. سالت الصديق فقال : لا يتعامل شرطة المرور في المخالفة الأولى مع السائقين بالغرامة أو التعنيف المزري. أنهم يلقون عليه في مكتبهم محاضرة حول مسئولية المواطنة واحترام قوانين الدولة ويسألونه عن مبررات مخالفته للسير فأذا اقتنع واعتذر اطلقوا سراحه واذا اصر وانكر استمروا في مجادلته واقناعه لتغيير سلوكه ولو طال الوقت.
- ركبت سيارة اجرة الى المعرض الدولي في اوساكا وكانت الأجرة 500 ين ياباني في ذالك الزمن. فأعطيته بالخطأ خمسة الاف ين لتشابه الورقتين في اللون والشكل، وهرعت مسرعا الى شباك التذاكر للمعرض. وإذا بالسائق يترك سيارته في مكانها ويفتش عني بين الصفوف المتراصة ثم يسلمني باقي المبلغ. واشفقت عليه حين وجدت شرطي المرور يدون عليه مخالفة . ومن الصدف الغريبة في نفس السفرة حين وصلت مطار بغداد واعطيت السائق خمسة دنانير بدلا من 500 فلس. ثم رجعت الى المطار لأفتش عنه فقال زملاؤه انه يعود دائما للوقوف في نوبته ولكنه هذه المرة لم يعد فلا تتعب نفسك فقد غنم هذه الفرصة وهرب.
الة العيش - صحة وشباب:
ثم يكمل الشاعر المتنبي بيته فيقول : فأذا وليا عن المرء .. ولى. اهتمام اليابانيين بصحتهم البدنية والروحية لها امثلة كثيرة : الأكل الصحي – والرياضة – وتوفر مراكز العلاج ضمن الضمان الصحي والاجتماعي – وفي المعابد ساحات للتأمل الروحي - وفي مزاولة حياتهم هدوء يجنبهم الانفعال الحاد ويهب للنفس سكينة ووقارا. ونادرا ما وجدت صراخا يصم الاذان او عراكا بالأيدي والارجل. ويفضل بعضهم حتى من الوزراء الإنتحار اذا اخطأ خطأ جسيما بصمه بالخيانة أو العار. وذالك تقليد قديم من عهد المحاربين القدماء.
وتنتشر في قرى اليابان حمامات للمياه المعدنية الحارة المفيدة للصحة .. ولواحدة من تلك توجهت مع الأصدقاء. واسم تلك القرية (هيروشيما). وهي جزيرة بين جزر خلابة جنوبا من العاصمة طوكيو. حملتنا الى بعض تلك الجزر طائرة بحرية. ثم قارب سريع الى هيروشيما. كان أول مطار في البحرين في الثلاثينات وشطر من الأربعينات من القرن الماضي.. مطارا لطائرات بحرية تسيرها شركة الطيران البريطانية (بي.او.اي.سي) ويقع ذالك المطار على ساحل المنامة بالقرب من مساكن عائلة فخرو ومقريه من (المقصب) حيث كانت تذبح الأغنام لبيعها في سوق (القصابين)على الجانب الغربي من بلدية المنامة.حين ودعت والدي الذي سافر على الطائرة البحرية الى (بامباي) في الهند خلال الأربعينات .. تشوقت الى ركوبها وفاتتني الفرصة بعد اغلاق المطار البحري وافتتاج مطار البحرين الجوي في مدينة المحرق.
وحين ركبت الطائرة البحرية الى هيروشيما بعد مرور عقدين من الزمن ..شعرت انني أشبعت ذالك الشوق وتسمرت عيناي على نوافذ الطائرة البحرية لأتأمل كيف تطير من البحر ثم تنزل متهاديه على البحر في الجانب الاخر لا يثني عزيمتها تلاطم الأمواج. أما القارب السريع (واسمه القارب الطائر) الى هيروشيما فقد أثار عندي الفضول . وأذكى الغرور، وأورث السرور.وهو ايضا من اختراع اليابان ولم يوجد مثله الا في إيطاليا. ذالك لأنه بمثابة سفينة صغيرة وليس قاربا من تلك القوارب بما فيه من خدمات واتساع. وفي سرعته التي تعد بالأميال من خمسين أو أكثر في الساعة اختصار للوقت وتكاد مؤخرة القارب أن تمس الماء مسا بسبب السرعة، ومقدمته شامخة نحو السماء. نزلنا في شيراهاما في فندق مشهور اسمه (كواكيو) يشتمل على منبع من المنابع المعدنبة الصحية. والفندق مشابه للمنازل اليابانية. يستقبلونك بالترحاب والشاي وينزعون منك (الجاكيت) ويلبسونك (الكيمونو الرجالي) ويخلعون حذاءك. وفيما يلي وصف مختصر لمكونات الفندق على غرار المنازل التقليدية في اليابان:
- ارضية الفندق مكونة من قطع متراصة من أعواد الاشجار وأغصانها واسمها (تاتامي) عرضها ثلاثة أقدام وطولها ستة وسمكها أربع بوصات. يربطها من أطرافها شريط ضيق من القماش الأسود. أذا سأل الياباني عن مساحة غرفة أو صالة أو منزل فالجواب يكون بعدد تلك الحصران وليس بالياردة والأمتار.ولا حظ للحجارة أو الجدران في تلك المنازل فهي اعمدة من الخشب الأصم وفواصل للجدران من مواد طبيعية. بعضها يجر على عجلات لجمع حجرتين او فصلهما عن بعضهما. وقل عن الابواب والنوافذ ما تشاء من حيث الرقة والنعومة. فتحت باب الحمام مستعجلا فانخلع الباب في يدي. ولو أن غاضبا مستعجلا اخذته سورة الغضب لا ستطاع أن يخسف بالأبواب والنوافذ بضربة يد أو ركلة رجل. ومربعات النوافذ لا تحتمل الزجاج لخفتها فهي كالأبواب مصنوعة من خشب رقيق أبيض ولا يناسبها ألا استعمال الأوراق بدلا من الزجاج. يستطيع الأطفال من غير اليابانيين التسلي بثقب تلك الأوراق بأي اصبع شاؤا. وقال صديقي طالما شكى اهل اليابان من تصرفات أطفال المستأجرين القادمين من الشرق الأوسط من هذا التصرف المعيب.
ونعود الان الى بيت القصيد في الفندق وهو حمام السباحة في المياه المعدنية الحارة. حمام للرجال واخر للنساء يفصلهما حاجز من زجاج .. يتذرع الرجال في موضوع الحشمة بكثافة بخار الماء الذي يحجز الرؤية عن حمام النساء. كما يتذرع العراة منهم بنفس تلك الأسباب. اصدقاي المتعودين، يأخذون اولا رشاشا (دوشا) شديد البرودة ثم يقفزون في الماء الحار وهم فرحون. وأنا لا أتحمل ذالك فأنزل الى حوض السباحة بلباس السباحة رويدا رويدا لشدة حرارة الماء، وهم يضحكون. تلفحني تلك الزيارة لشيراهاما بذكريات من المحبة والصحبة والأنس والأمسيات بطلها اخي جاسم الباقر. وفي جمال الجزيرة وحدائقها وأزهارها راجة للنفس.وقد وقف شيطان الشعر على بابي بعد انصراف عن الشعر، فلم اخذله ونظمت هذه الأبيات:
ألقت على الشّاطي مراسيها
سفينة تزهو بمن فيها
تصفّقُ الريح لها فرحةً
ويشمخ الموج بها تيها
طارت بهم شوقاً وشقّت لهم
درب ضياء من مجاريها
وخلفتْ أشرعةً ريحها
تنشرها طوراً وتطويها
و أذعن البحر..فما ترتجي
في اليمِّ فلكٌ أن تباريها
هم فتية عُربٌ سما فرعهم
من مَعرقِ الأصل وشاميها
آمالهم تحملها أنفسٌ
طموحة..سبحان باريها
شحّتْ عليهم أرضهم مغنماً
فالتمسوه من أقاصيها
وفي لظى الغربة أشواقهم
تبعثها الذكرى .. فتذكيها
صدورهم أثقلها همّها
فالتمسوا للهمّ ترفيها
واستقبلتهم (شيراهاما) الهوى
نشوانةً .. رقتّ حواشيها
الحُبّ في أحضانها دافىء
كالماء يجري من سواقيها
يشفي من الأجسام أوصابها
وغلّة الأنفس يرويها
نهارهم من مرح كله
وليلهم أحلى لياليها
ويومهم يحسده أمسه
ويحسد الصبح أماسيها
مجالس بالأنس معمورة
يستظرف النكتة راويها
تستيقظ الأحلام في أكؤس ٍ
أترعه ا بالحب ساقيها
وتعزف الألحان (حورية)
يردد الشاطي أغانيها
وطابتْ الكأس لمن ذاقها
و ذاب من شوق ٍ بها.. فيها
وكل حسناء لها معجب
مولهاً بات يناجيها
وظبية البان وصيادها
بوافر العشب .. يُمنّيها
وعابد الحسن الى (ربّه)
صلى خشوعاً ليس تمويها
يعطي الصبابا خير ما تشتهي
ويبتغي (مرضاته) فيها
ويكره الأحسان من محسنٍ
لغايةٍ في النفس يقضيها
وآخر حار بها معدةً
من هادم أللّذات !! يحميها
لم تُغرِه الكأس وصهبائها
ولم تراوده أمانيها
جزيرة الاحلام يا جنةً
يحارُ فيها الوصف تشبيها
قد وقف الدهّر على بابها
يقتطف الحسن ويعطيها
يسألني خلّي في وصفها
شعراً .. وما كنت لأوفيها
ارى بنات الشعر مزهوةً
تعجب مني إذ أناديها
منذ الصبا عاهدني ثغرها
وعللتني بأمانيها
جاءت على رغمي أو رغمها
وأسلست طوعاً قوافيها
أوفَتْ بما جادتْ وها أنني
من شرفةِ الذكرى أُحيّيها
علقت نفسي بالأسفار،منذ نعومة الأظفار. أسفار برفقة والدي الى العراق في الصغر و تجوالي في الأمصار والاقطار في شبابي وفي الكبر. طفت حول الكرة الأرضية أربع مرات، وتجولت في مناكبها بالمات والعشرات. وكتبت عن بعضها نثرا، وأوفيت كثيرا منها شعرا. ومما قلته في ذالك هذه الأبيات:
قد همت بالأسفار أعشقها غراما مستحيلا
كم سابقت خطوي الشموس فكدت اسبقها وصولا
ولكم تحملت الفراق ولم أطع فيه .. عذولا
حتى أذا هاج الحنين بخاطري .. وبكى طويلا
بادرت يا وطني اليك ..فلم تكن عنّي بخيلا
ونهلت حبك موردا عذبا وماء سلسبيلا
أول سفرة لي حول العالم كانت في عام 1962 استغرقت اربعة شهور.وهي سفرة شاب في الثانية والثلاثين من العمر.تستفزه رغبة عارمة للتعرف على عالم جديد بعيد خارج الأوطان. أبتدأت الرحلة الجوية في 12 أبريل على الطيران البريطاني بي.اي.او سي. الى هونغ كونغ مع توقف في سنغافورة.ولكن الطبيعة في البحرين في هذا التاريخ كانت عاصفة مليئة بالغبار الذي تقل فيه الرؤية ..فتأخر وصول الطائرة ريثما تنجلي الرؤية حتى ما بعد منتصف الليل ووصلت المطار القديم متشوقا وهم الرحلة بين عيني. وأذا بقبطان الطائرة نافخا ريشه ملازما لمكتب تسجيل المسافرين.قلب نظره في الجواز وأمرني بالعودة الى البيت لانه لم يجد رخصة التاشيرة (الفيزا) للذهاب الى هونغ كونغ. وحاولت اقناعه بأن وكيل السفريات أكد لي بعد زعمه انه راجع دار المعتمد البريطاني .. فقالوا له لاحاجة الى رخصة الفيزة لمواطني البحرين. ثم القى الجواز بحضني بشيء من الغضب، وكتب لي اقرارا بأنه منعني من السفر ويتحمل مسؤولية ذالك. أخذ بخاطري المسئول في دار الأعتماد البريطانية وأعطاني التأشيرة وسافرت يوم 14 من أبريل الى هونغ كونغ.
وصلت المطار الصغير الكائن في شبه جزيرة في قلب مدينة هونغ كونغ. وكنت فرحا عند وصولي بأن القي عصا التسيار في بلد يستضيف الزائرين، فأذا الأمر بالضد.فقد لقيت ضباط أمن كالزبانية يأمرون ولا يؤمرون.من هؤلاء ضابط ذو نياشين على كتفه،يأمر المسافرين بلهجة حادّة قائلا: من عنده تأشيرة يصطفف على اليمين، ومن ليست لديه تأشيرة يبتعد الى اليسار.فقلت في نفسي لو لم يمنعني قبطان الطائرة في البحرين لأصبحت اليوم من أصحاب اليسار .. وما ادراك ما اصحاب اليسار.. تفحصني جيدا قبل أن يتفحص جوازي وأمرني بالدخول وكأن هونغ كونغ جنة يكفيك شرفا أنه افسح لك الطريق اليها. وقلت في نفسي ليت رضوان خازن الجنان يوم القيامة،يعطيه درسا في حسن استقبال من هم من أصحاب اليمين.. وللجمارك في فحص الأمتعة شأن عظيم.ولم يكن لدواعي الأمن وهوس الأسلحة والارهاب،الات فحص بالأشعة أو بالأيدي كما هو شأن اليوم.
هونغ كونغ في ذالك الزمن كانت صغيرة وليست عصيّة على ذرعها بالاقدام. ومع ذالك كان فيها من ازدحام الشوارع والأحياء والاسواق ما هو شبيه نسبيا بما فيها اليوم.أغلب سكانها صينيون وبعدهم من جاليات الهند.
هونغ كونغ في 1962:
نزلت في فندق في الأحياء الصينية واعجبني اسمه الشاعري (صن راي) أي شعاع الشمس.وجدت فيه خدمة جيدة ولم اجد فيه شمسا.وكان أول هميّ الحصول على تأشيرة دخول لليابان. قيل لي أنها سوف تستغرق 15 يوما أو أكثر.ولكن صديقي العزيز في اليابان رجل الأعمال جاسم محمد الباقر من العراق، وهو الوكيل المعتمد لشركة متسوبيشي الكهربائية حتى يومنا هذا، استطاع بمهارته واجادته اللغة اليابانية ان يستخرجها في أقل من اسبوع. لقد بلغ به التشوق لملاقاتي أن يغادر مكتبه ويلاحق معاملة التأشيرة في وزارة الداخلية اليابانية ثم في محاكم القضاء ثم وزارة الخارجية. وكان القضاء يتطلب حضوره شخصيا لأداء القسم امام القاضي .
ألبسها .. وتوكل :
بينما كنت أتجول في في أسواق هونغ كونغ لابسا بدلتي الأفرنجية الوحيدة التي فصلتها في البحرين، أمسك بزمامي أحد الصينيين من خياطي اطقم البدلات قائلا : سوف اصنع لك بدلة كاملة من ثلاث قطع أحسن من التي تلبسها.قلت ما عندي وقت، قال انجزها في 24 ساعة فقبلت. دفعت المقدم من الثمن واخترت قماشا من صوف خفيف يسمى (موهير) لعله من شعر الماعز اللّماع.وجاءني في غرقتي في الفندق عند المساء وجربها علي مقطوبة بالخيوط، وسلمها لي كاملة عند ظهيرة البوم التالي. فكنت الازمها في بقية أيام سفري مع ربطتي عنق جاهزتين معقودتين تتسع الواحدة منها او تضيق حسب المطلوب !! ثم اشتريت من البائعين الهنود كامرة تسجيل سينمائي 8 ملم. ماركة (كانون) في اوائل عهد انتاج الكاميرات الشخصية. وكان لها شأن كبير في حياتي.سجلت بها معظم اسفار الخارج واهم المناسبات العائلية .وهي تحمل بكرات تسجيل في حدود اربع دقائق. وشغلت نفسي حين رجعت الى البحرين في الصاق تلك البكرات وقطع المناظر المشوشة ثم تحميلها في بكرات كبيرة من حجم 8 ملم. وعرضها على الشاشات في نادي العروبة ومع العائلة والأصدقاء ومن بينهم وزراء هامّون من البحرين.واضفت بذالك هواية التسجيل الصوتي الى السينمائي.
ثم دلفت الى سوق الصيارفة واذا بسعر صرف الدولار يختلف من محل الى اخر فاخترت من وجدت عنده احسن الأسعار.استلم الدورات وخبأها واعطاني بحسب السعر الممتاز مخصوماً منه مبلغ سعي مقداره 5% فاصبح الدولار يثمن بخس اقل من غيره فلما اعترضت بسبب ان لافتة السعر بالأنجليزية ليس فيها خصم اشار الى لافتة باللغة الصينية قائلا سعر الخصم فيها مذكور والمعاملة تمّت و ليس فيها نكوص.
في هذه السفرة وجدت أن مدينة هونغ كونغ بمثابة مركز عالمي للتسوق الشخصي لاسيما القادمين من القارة الأمريكية بسسب أن الاسعار المعروضة في أسواقها اقل من اسعار المنتجات ذاتها في بلدها الأصلي. لكن المتسّوق غير الحذر كثيرا ما يقع ضحية للتلاعب أو الغش.
ملامح من هونغ كونغ:
صرت أذرع الشوارع في هونغ كونغ (كاولون) قاصدا اغلب الأحيان أكبر فنادقها وأشهرها ومن أقدمها (تأسس في عهد الأنجليز عام 1928) واسمه (باننسولا هونغ كونغ)المطل على البحر.تأخذني في الطريق دهشة العمران الشاهق وتخمة الأثرياء – وتذيب نفسي أحوال الكادحين و ذلة الفقراء.بينما يكاد الناظر من شاطيء البحر أن يلمح جزيرة (مكاو) الخاضعة انئذ للأستعمار البرتغالي.حيث تقيم ساحة لعب القمار (الكازينو) في قاعة بسيطة كبيرة تعلوها قبة واسعة يجتمع فيها اصحاب الثراء مع الجمهور الكادح نساء ورجالا ممن يوفرون من مدخولهم الشهري لأنفاقه في القمار طمعا في ربح كبير وحظ عظيم . وقد وجدت تلك القاعات مثقلة بسحب دخان السجائر في جو من الضجيج والصراخ ..فاتجهت لتفقد انحاء مكاو فكانت مجرد حوانيت ومساكن متواضعة البناء.ولم يدر بخلدي انها سوف تصيح كحالها اليوم معلما دوليا للسياحة والترفيه ومرتعا خصبا للعب القمار بعد استقلالها وعودتها الى احضان الصين.
بانينسولا فندق على الطراز والذوق الأنجليزي، يصرف للمقيمين ست وجبات في اليوم. الشاي والقهوة والكعك في الفراش في الصباح الباكر، وافطار كامل بعدها، ثم شاي او قهوة في ضحى اليوم ثم وجبة الغذاء وبعدها العشاء وبعد كل ذالك وجبة ما قبل النوم.ولعله اليوم قد بدل تلك العادات حسب مقتضيات العصر. وكان يعجبني تناول قهوة ما بعد الظهر بما يتبعها من بسكويت ومعجنات وابتسامات لطيفة. في طريقي الى ذالك الفندق جاءتني صدفة خير.تقابلت صدفة مع الشاب محمد بو خمّاس .وشركة بوخماس ومالكيها كانت مجاورة لمحلنا على امتداد شارع الشيخ عبد الله في سوق المنامة.نتزاور ونتحاب ونحن نرتشف فناجين القهوة والشاي من المقهى المجاور.كان صاحب المقهى يعمم رأسه بغترة (شماغ) سوداء باعتباره سيدا في نسبه، وكنا نحترمه رغم مزاجه الحاد،وهو يغرينا بتمسكه بالنظافة وغسل الأكواب بعناية.
كانت فرحة لقائنا عارمة متنامية المشاعر بين الصداقة وألفة الغربة. قال انه مثلي ينتظر تأشيرة السفر الى اليابان وأنه سوف ينتظر لمدة 15 يوما. فصار سفري لليابان قبل سفره. وفي هونغ كونغ طاردني طيف الوطن وفراق الأسرة، وولدي أسامة في شهره الثاني بعد الولادة ..وهزني الشوق فارسلت لأمه هذه الأبيات:
"أسامة " تسلو به أمه *** أن غاب عنه والد في السفر
عيناه .. عيناه وفي وجهه *** شبه وفي المبسم منه أثر
يرفرف الحب على مهده *** ويكبر الحبّ اذا ما كبر
هكذا أخذتني تلك السفرة الأولى حول العالم في 1962 الى المحطة الأولى في هونغ كونغ ثم تلتها محطّات ومحطّات أشبعت ذاكرتي الفتية بمشاهد من المدن والبحاروضفاف الأنهار وشوامخ الجبال ذوات الرؤؤس البيض والخضر واوديتها المزهرة فاتنة الجمال – في عشرة مع المعارف والأصدقاء، أو في وحدة تسلو النفس بعجائب المشاهد السياحية. واصبح حالي كما وصفة الأديب الشاعر عبد الرحمن القصيبي حين قال:مشكلتي الحقيقية ليست النسيان،مشكلتي كثرة الذكريات.
حاولت أن أطأ أكثر عدد من المدن والبلدان تسمح بها تذكرة سفري حول العالم والتي تشترط مواصلة السفر في اتجاه واحد نحو الشرق دون رجوع الى الخلف.الى أن استقر في البلد الذي سافرت منه.لأكون –ربما- شاهدا على كروية الأرض واستدارتها. وما خرج عن خط الرحلة تحملت تكلغته - ومدن تلك البلدان جاءت على النحو التالي:
(اليابان – جزائر هانولولو – لوس أنجلوس – دزني لاند – لاس فبجوس – سان فرانسسكو – سياتل – شيكاجو (أيوا) واشنطن – نيويورك – شلالات نياغرا- تورنتو كندا –لندن – بلجيكا – هولندا – الدنيمارك - هامبورغ – فرنسا – أسبانيا –روما – اليونان – بيروت – العراق – الكويت – البحرين).
دهشة المدن الأولى:
زيارة مدينة او بلاد بعيدة للمرة الأولى لها طعم خاص كطعم الفاكهة التي لم تذقها من قبل ..تقف أمامك تلك المدن شامخة وانت وحيد . تسترشد يالأدلّاء بدلا من الأصدقاء. تلقاك في كامل زينتها مثل فتاة متبرجة ولا تعرف بواطنها ألا بتكرار الزيارة حين تفتقد في نفسك منها سحر العينين الغامضتين.. تلازمك الدهشة حيثما تسير. ويستولي عليك الحذر من المجهول. الزيارة الأولى تبقى في النفس والزيارات المتكررة بعدها تفتقد تلك الدهشة الطفولية العفوية أمام عالم لا تعرفه حتى تكتشف سره سرا يعد سر.
وأراني لتلك الأسباب مندفعا لسرد ذكرياتي الأولى لمشاهداتي في اول مواعيد لقائي بساحات تلك المدن والبلدان. – ألا فيما ندر - أما مدى التغير والتطوّر والتقدم الحاصل بعد ذالك فلم يصبح له الان سرّ ولا سحر بفضل تنوع وسائل العلم والمعرفة وامتداد شبكة الأتصالات. ومن تلك المدن والبلدان بلاد اليابان.
أرض الشمس المشرقة:
كانت اليابان تحمل هذا اللقب لقربها من خط التوقيت الدولي خيث تشرق الشمس غلى الغرب في يوم يختلف فيه التوقبت الدولي بين ما يقع شرق الخط وغربه.فأما ان تكسب يوما من الأسبوع أو تخسر يوما حسب الأتجاه. وتسلم شركة الطيران لمن يعبر خظ التوقيت الدولي في أي اتجاه شهادة موقعة ومختومة. والمفروض أن تكون عندي منها اربع شهادات لا ادري اليوم اين وضعتها بعد تلك السنين.
أليابان: من أين نبدأ؟ كانت هي الزيارة الأولى. من هونغ كونغ توجهت الى اليابان في 18أبريل 1962. تبعتها زيارات متعددة بعضها للأعمال التحارية وبعض للمشاركاة في مؤتمرات اتحاد شركات التأمين كوني نائبا لرئيس شركة التأمين الأهلية في البحرين ثم رئيسا لها. وللمعلومات، فاليابان اسسها الأمبراطور (جيمو) سنة 660 قبل الميلاد. وتأسست الملكية فيها بعد الحرب العالمية الثانية أبان احتلال أمريكا لليابان في 3 مايو - 1947. ونسبة التعليم بين سكانها تساوي في عام 1991 نسبة 99% !!
وأهم مدنها : طوكيو – العاصمة / أوزاكا – مركز التجارة /يوكوهاما – الميناء المهم في صناعة السفن / كوبه – ميناء / ناجويا / ساموورو / كيوتو : حيث المعابد وتماثيل الالهة / هيروشيما ونجاشي – المدمرتين بالقنابل الذرية الأمريكية / ونيكو – مقصد السائحين للطقوس الدينية (الشنتو) / وجبل فوجي – مقصد السواح حيث تغطي قممه الثلوج طوال العام.
أصبحت اليوم المعلومات المتعلقة بالنظام السياسي والأقتصادي والأحوال الاجتماعية، ومزايا تلك المدن وغيرها من مدن اليابان – اصبح كل ذالك في متناول اليد لمن يقلب الأوراق ومن يفتح شبكات الأنترنت كما اصبح من يقصد اليابان للسياحة والتعرف عليها مثقلا بالمعلومات وهو في حبرة من أمره وكأنه يقول : من أين نبدأ.. فلا داعي أذن لمزيد من الشرح.
أما توجهي انذاك لليابان فكانت له ثلاثة أغراض: الأول تجاري لملاقات الصديق جاسم الباقر وكيل شركة (متسوبيشي الكهربائية) وزيارة معارضها ومصانعها ومواقعها. وهي تنتمي الى مجموعة شركات متسوبيشي العملاقة التي تحتضن معظم الصناعات من طيران واسطول بحري ومصانع حربية (طائرات " زيرو" التي كانت تقصف الأساطيل الأمريكية بالطريقة الإنتحارية في الحرب العالمية الثانية .. كانت من صنع متسوبيشي) بالأضافة الى مصانع الإنتاج الاستهلاكي الصناعي والبنوك وشركات استثمار وغيرها.
الغرض الثاني هو السياحة والإطلاع على معالم اليابان السياحية واحوال المدن والسكان. والغرض الثالث الإستجمام في منتجعاتها الصحية والاستشفاء بمياهها المعدنية الساخنة.
المطار اللذي يبتسم:
وطأت أرض مطار طوكيو البعيد نسبيا عن العاصمة. ووجدت الصديق الباقر في انتظاري،وقد خفف من وعثاء سفري اثناء معاملات الوصول في المطار -- تلك الإبتسامات والانحناءات امامي وكلمات الترحيب والشكر باللغة اليابانية (دومو اريكاتو كوزيمش). وكان الفندق الذي اختاره لي الصديق في قلب طوكيو قبل التوجه الى مكتبه في اوساكا..هو الفندق المشهور القريب من قصر الإمبراطور .. فندق (أمبريال هوتل.). كان افطار الصباح شهيا بقاعته التقليديه ومنظر الحديقة امامه ولطف الاستقبال من قبل السيدات باللباس التقليدي الياباني وحسن المعاملة من الموظفين . واعجبني صحن (الوفلز) تلك العجينة المخبوزة على شكل خلايا النحل. نملؤ اجوافها بالعسل او (السيروب) المستخرج من بعض الأشجار ..عملية شاعرية يسيل لها اللعاب.
الصديق جاسم الباقر رجل أعمال متمرس يعرف من أين تؤكل الكتف .يستضيف المسئولين في شركة متسوبيشي بكرم بالغ.وعلى الموائد وهو مضيفهم، تراهم على عادة أهل اليابان والصين – وهم يلتقطون طعامهم على مهل. بأقلام العصيّ اامخصّصة -، يستفيدون من الزمن البطيء في ترتيب افكارهم وأجوبتهم وبعض النكات الساذجة. وحينما ينشغلون ظاهريا بتلك الأعواد الخشبية أو الفضّية التي يتناولون بها افاضل الطعام ثم يلاحقون اخر ما يتبقى في الصحن من حبة رز أو قطع صغيرة متناثرة بمهارة عجيبة وبتأن وهدوء وكأنهم يقولون معنا (رحم الله من نظف الأناء.)وفي هذا الجو من الألفة والأنسجام، وعلى انخاب الشراب .. أو فيما بعد – يستطيع اخونا الباقر أن يسمعهم بطريقة ودية بعضا من مطالبه بالنسبة للأسعار أو الخدمات.وهم يهزون رؤؤسهم ولا تدري هل ان ذالك يعني الموافقة او غير ذالك ..فلا بد لكل مسئول ياباني أن يراجع مديره قبل نعم أو لا.
ومع الأصدقاء، لا تفوت الباقر مواقف التنكيت على الأقوال والأفعال.وعنده قدرة على اكتشاف نقاط الضعف مع الصديق واستعمالها (كمقلب) في بعض المواقف المسلية. كنت أصر عليه دائما بالحضور المبكر عند السفر معا في القطار من طوكيو الى الى اوساكا وبالعكس.فكان يتعمد التأخر عن موعد سفر القطار حتى اخر دقيقة..ويعجبه منظري وانا اجري خلفه لركوب القاطرة وقد بدأت بالمسير ليدفع اجرة التذاكر للمحصّل في القاطرة بدلا من شباك التذاكر المزدحم.
ويحضرني بهذه المناسبة مثال اخر .. حين استضاف الباقر أخي صادق وكان يأخذه في سيارته لمشاهدة جمال الطبيعة على مرتفعات الجبال ومنحدراته المخبفة، ويطلب من اخي صادق أن يستدير برأسه لمشاهدة المناظر والوديان وأغلب الظن أنه يعلم أن اخي يعاني من الم في رقبته واخي يجيب :السيارة ترينا تلك المناظر دون الحاجة الى أن الوي رقبتي لرؤيتها.
ومثال ثالث حين كان يمشي في الشارع مع رجل أعمال من الخليج مقيم معه في اوساكا متعود على (البصبصة) للفتيات يروي لنا قصته معه وهو يسترسل ضاحكا : فيقول.أسأله وأنا عارف بميوله - ما الذي اعجبك في هذه الفتاة وليست جميلة – فيجيبني اعجبتني رقبتها، والثانية بغير جمال أعجبه قوامها،والثالثة مثلهما أعجيته سيقانها. أما التي ليست لها رقبة جميلة ولا قوام ولا سيقان فكان جوابه: أعجبتني أخلاقها..وكيف عرفت اخلاقها وهي تمشي فيقول: أنها الفراسة والحّس الداخلي ..!! والباقر مع الاصدقاء، كريم الوجه واليد واللسان – على عكس قول الشاعر المتنبي – من اصدقائه التجار المقيمون في أوساكا – نفر من اطايب الأصدقاء معظمهم جاء من سوريا ولبنان اغلبهم في تجارة الأقمشة والمنسوجات أوصيارفة عرفت منهم: ألياس عجلون وجون شهود وفيليب عجلون – محمد اللبابيدي – والسيد عوني - وأميل شلهوب.كان يستبقهم في معظم المناسبات بدفع فواتير الأكل والشراب أوالأقامة بسبب اتقانه اللغة اليابانية وسرعة مبادراته
للتفاوض مراسم وفنون :
التفاوض مع الشركات في اليابان ومدرائها الكبار له في اليابان تقاليد وأصول. يستسيغها رجال الاعمال الشرقيين لما فيها من لمسات الألفة ويتذمر منها رجال الأعمال من أهل الغرب وبالأخص الأمريكيين لأنهم اهل عجلة من أمرهم و لاعتيادهم على الأتصال المباشر في عصر السرعة وكون الوقت عندهم من ذهب. ولاكتظاظ مواعيدهم في وقت ضيق وقصير. كتب لي الصديق الباقر حين زار امريكا وقال بهذا الخصوص :جعلتني هذه السفرة احترم طريقة العمل في اليابان أكثر من السابق.
وقد جرت محادثاتي مع المسئولين في شركة متسوبيشي على النحو التالي:
تأخذك فتيات الأستقبال عند وصولك الى صالة استراحة.حيث تستضاف بمناشف الوجه حارة او باردة وبالشاي الأخضر او الاصفر الياباني مع قطعة من حلاوة (التوفي) مشفوعة بابتسامات وانحناءات وكلمات الترحيب حتى تقرّ عينك وترتاح أعصابك.وسيتسنى لك وأنت تنتظر.. تقليب بعض الصفحات عن نشاط الشركة أو التمعن في الصور على الجدران.ثم يأتي نائب المدير العام وبعد كلمات الترحيب يبدأ بسؤالك عن أسمك وعنوانك ويتبادل معك بطاقة الشركة مع عدد من الأنحناءات والايتسامات. ثم يسألك عن الغرض من المقابلة وموقعك من الشركة التي تمثلها. وهو يكتب كل ذالك ويأخذ ورقته الى مكتب الرئيس.ويغيب عنك حتى يأذن رئيسه بالدخول. وقد أوصاني الصديق الباقر فنفذت وصاياه وكانت توصياته كالاتي: (في لقاء المدير العام تقدم لك مجددا مناشف الوجه والشاي و يكون الحديث حديث مجاملات و في امور عامة يسألك عن بلادك وعن الطقس وعن حسن اقامتك في اليابان وما شابه.. لا يسألك عن امور شخصية ولا تبحث معه تفاصيل اغراض المهمة التي جئت من أجلها، فقد أعد لهذه الأمور مختصين ومهندسين تبحث معهم المواضيع التي تريد مناقشتها بعد انتهاء المقابلة.وكأني توقعت مثل هذا الجو قبل سفري من البحرين فقدمت له هدية معنوية بدلا من هدية مادية.كانت عبارة عن لوحة رسم زيتية من رسم الفنان كريم العريض. تطلبت مني خلال السفر اقصى الحذر أن لا يمسها سوء.وقد فرح بها وشكرني فوق ما تصّورت.
تفاوض يشبه الإستجواب :
لم أكن أتوقع أن اجلس على رأس طاولة مفاوضات في مقابل أعداد من المختصين والمهندسين لكل نوع من منتجات متسوبيشي التي كنا نستوردها للبحرين وقطر. طاقم للثلاجات واخر لمكائن الخياطة وثالث للتلفزيونات – في أوائل عهدها- واخرون لمراوح الطاولة ومراوح السقف – وكانت الأكثر رواجا انذاك. كل جهة أعدت لي سيلا من الأسئلة لابد أن اجيب عليها قبل أن ابدأ بملاحظاتي ومطالبي بالنسبة للأسعار والخدمات وغير ذالك.واستغرقت تلك الإجتماعات تسع ساعات متواصلة دون انقطاع فيما عدا فترة تناول (السندويج) في وقت الغذاء. ولكل طاقم كاتب يدون المحضر في زي مترجم وحقيقة شاهد على ما يدور من كلام. الأمر الذي اعاد الى ذاكرتي ما حضرته من اجتماعات تجارية في الدول الاشتراكية حين يكون المترجم عينا على الحاضرين عند جهات المراقبة الرسمية.
أبتكارات متسوبيشي :
لا يخلو منزل أو مكتب في اليابان من منتجات شركة متسوبسشي (وتعني الكلمة ثلاث نجمات بشكل المعين). إبتكرت متسوبيشي في عام 1962 أول تلفزيون صغير(ميكرو) بشاشة 6 بوصات للتركيب على المقاعد الخلفية للسيارات، أو لاستعمالها في التنقل اعتمادا على البطاريات فيها. كما ابتكرت أول كامرة فيديو يمكن مشاهدة مناظرها على شاشة التلفزيون. وتبتعتها بعد ذالك شركة (سوني) المشهورة. وقد وجدت ضالتي المنشودة في هذين الإختراعين. بعد ما يقرب من عام ستكون البحرين على موعد يترقبه الجمهور لافتتاح معرض البحرين التجاري الثالث في حديقة الأندلس في شهر مارس 1963 – بامتياز عما سبقه بالنسبة للمكان و المساحة والشركات والمنتوجات.وقد حجزت شركتنا موقعا مناسبا في ذالك المعرض سوف نصممه على شكل معبد ياباني (باكودا) للفت الأنظار.
لعب التلفزيون الميكرو الصغير وكاميرة الفيدو دورا كبيرا في اجتذاب الزائرين ودهشتهم لهذين الإختراعين لأول مرة في البحرين. كانوا يتزاحمون لمشاهدة انفسهم لأول مرة على شاشات التلفزيون ويقومون بحركات استعراضية او الرقص احيانا رجالا ونساء وأطفالا. وتزاحم جمهور اخر لمشاهدة الأفلام السنمائية التي سجلتها في رحلتي من الكاميرة السينمائية التي اشتريتها من هونغ كونغ. وأهم تلك المناظر كان تغطيتي السينمائية لمعرض (أكسبو) الدولي في مدينة (سياتل) الأمريكية. وتضمنت تلك المشاهد العاب السرك والمشي على الحبال (الاسلاك) ومن على ظهر الدراجات من مرتفع شاهق وخطير ببراعة مدهشة.
وقد استفدنا من خبرة المهندس الكهربائي المرحوم "عباس حفاظ" في تركيب تلك الأجهزة وتوصيل أسلاكها وصيانتها. كان الخبر الذي حمل الينا السرور زيارة معرضنا من قبل صاحب العظمة امير البحرين الشيخ عيسى بن سلمان ال خليفة.الذي أبدى أعجابه بالمعرض وأمر بتركيب الكاميرا والفيدو في احد القصور..وقام السيد عباس حفاظ بتنفيذ ذالك بعد انتها المعرض. والمفاجأة السارة بعد ذالك أن معرضنا فاز بالجائزة الأولى واستلمنا كأسا كبيرة من الفضة تخلد تلك المناسبة.
عين رأت .. وأذن سمعت :
فتحت عيني في اليابان على وجوه شتى من البشر. معظمها وجوه ناضرة بالايتسامة، وأقلها ما فيها حزم وجهامة. تنحني لك الرؤؤس بالمجان ولا تقبل منك رشوة ولا احسان. لا تقول لك كلمة لا، الا وقبلها نعم. بنبرة فبها تأسف وندم. واللباس التقليدي للنساء فيه وقار وحشمة..طبقات من الحرير المزركش بعضها فوق بعض ورزمة من الأقمشة الموثفة بعناية وفنّ، تحت الرقبة بين المنكبين. ودبيب أقدامهن المتوازن كرقص (الباليه) يحكي فرحا ولا يختال مرحا.
في مدينة (كيوتو) ومدينة (نارا) في الدرك الاسفل من طوكيو، بعد أن تطوف بالمعابد والهة (الشنتو) تستدرجك روائح البخور الى حفلات تفدبم الشاي على التقاليد اليابانية العريقة. وسوف ترى كيف تجلس نساء (الجيشا) باللباس التقليدي الى طاولة الشاي على المسرح. ويجلس طالب الشاي في الجانب المقابل وكلاهما على هيئة رياضة التأمل (أليوجا) وعلى الجانب اواني أوراق الشاي الأخضر والأصفر وما هو مجتني من رؤؤس الجبال وهو اغلاها سعرا. والمضيفة تشغل نفسها بغلي الشاي – وكأنها لا تراك – تصبّه في ثلاث دلال أو أكثرمن النحاس أو الخبث، واحدة بعد الأخرى .وكأنها تستعرضه لأثارة الشهية أو الفضول.أو لاتقانها هذا الفن .عليك أن تتلقى كوب الشاي على راحة يدك وتديره يمنة أويسرة حسب الأصول ثم ترشف الشاي رشفا وليس شربا. وحفلات الشاي لها قدم راسخ في التراث الياباني منذ القدم.مقترنة بقيم اجتماعية وروحيّة. أما خصائص الشاي الياباني الصحية، فقد تاه في تحليلها العلماء.
وإذا حان وقت الرقص والغناء التقليدي على المسرح، فلا تتوقع فيه هز البطون..وأنما هن فتيات الجيشا أو كبارهن في السّن، بلباسهن الياباني وحركات راقصة بطيئة مع تموجات الأيدي والأجسام وغناء يصدر بعمق من الحناجر يحكي قصص حب وغرام. ترافق كل ذالك موسيقى وطبول وأشرطة ملونة تسبح في الفضاء..يشترك في ذالك العرض نساء ورجال بحسب الأدوار.
ونداء المعدة لا بد وان يلح عليك بعد طول تجول وحب استطلاع. أعجبني من المشهيات المقلية صحن (التامبورا) المشتمل على الربيان (الجمبري) والخضار وثمار البحر وما يضاف الى ذالك وكلها ممرغة بالدهون الخفيفة على المعدة. ومن الأكلات الصحية (الشابو شابو والساكي ياكي) لحوم وخضار ومشروم يتم تحضيرها في الماء المغلي استطيب شرب مائه ايضا كحساء لذيذ .ومن الأعراف اليابانية والصينية أن تشرب الحساء بصوت مسموع تعبيرا عن الأعجاب. والأكلة الثالثة التي أعجبتني هي (تابان ياكي) عبارة عن صاج مشواة كبيرة دائرية تتسع لثمانية أشخاص وربما أكثر. ومن تحته نار الله الموقدة. يجلس حول هذا الصوان الموقد أصدقاء أو غرباء يجمعهم نداء المعدة وتفتح شهيتهم روائح الشواء. وتتسمر أعينهم على منظر الشواء بلباسه الابيض النظيف،وهو يستعمل سكينه لتقطيع اللحم بمهارة وسرعة ثم مجرفته يتفنن فيها لتقليب اللحم في الهواء، ولكل من الجالسين قطعة اللحم التي اختارها يجرفها الشواء الى حضنه مع خليط من الخضار المشوية دون أن يتحرك الشواء من مكانه
ومن النصائح لمن يعجبه اكل الشواء من اللحم الكوبي والبقرات المدللة بالمساج اليومي لتليين عضلاتها بالبيرة وما شابه – أن يتلمس حافظة نقوده قبل أن يتورط في دخول المطاعم اليابانية المشهورة. في سفرتي هذه كانت التكلفة 120 دولارا للشخص أو اكثر مع الشراب.وسعر البطيخة المتوسطة الحجم كان 100 دولار..واسعار هذا الوقت قل فيها ما تشاء. ولا أنسى أكلة السمكة بكامل هيئتها منضوجة على البخار (ستيم فيش) منضودة بالأعشاب والبهار. بقية اصناف الماكل في اليابان كثيرة فيها من أكثرما يدب او يسبح أو يطير. أو ما ينبت من خشاش الارض أو على شواطيء البحار والأنهار. ومثل ذالك في بلاد الصين. وما كنت أتصور أن سمكا يحمل جسمه سما قاتلا للبشر أقوى من سم (السايونايد) سوف يصبح في اليابان مقصد الأثرياء ومصرع المغامرين بحياتهم احيانا. وأن لحمه من الغلاء بحيث لا تستطيح تحمّله الا جيوب أهل الثراء .واسم هذا السمك السام هو (فوجو) تستعمل مطاعمه المختصة اطباء جراحين لاستخراج السموم من السمكة وطباخين مهرة قبل تقديمها لمن يجتاز الزحام عليها. وأذا أخطأ الطبيب ولو قليلا، فاكتب على اكلها السلام.
فواكه لها طقوس:
سألت صديقي – وهو خلف مقعد السيارة – تجوب بنا بين الجبال والسهول والوديان رائعة الجمال – أرى مناظر على مد البصر لشجيرات ثمارها ناصعة البياض كأنها بعض الأزهار. فقال تلك هي فواكه (الفراولة) يحرص المزارعون على تغليف كل ثمرة منها بأحكام بأكياس من (البلاستيك) يحفظونها من الحشرات والغبار فتجيء كل حبة لامعة نظيفة لاكلها. وسعرها يتناسب مع الجهد المبذول فيها. أما ثمرة الكرز وأزهارها فلها شأن أكبر في تقاليد اليابانيين. وتسمى تلك الأزهار (الساكورا) ولهذه الكلمة عند اليابانيين مثل السّحر في النفوس. في موسم الربيع وحين تتفتح أزهار الكرز تقام المهرجانات في اليابان وأهمها مهرجان (شيباطا) للساكورا الذي يقام كل سنة في بداية شهر أبريل وذالك في محافظة (مياغي). وللساكورا شعار وطني ولها أغنية عريقة في التاريخ يحفظها اليابانييون عن ظهر قلب. حفظت تلك الأغنية فوجدتها تقرب نفوس اليابانيين لمن يحفظها أو جزأ منها ثم يشاركونه في الغناء فترفع الكلفة وتقوي الألفة وتكسب الأصدقاء.
(نيكو) وما أدراك ما هي:
نيكو مدينة في اليابان تتقاطر عليها أفواج السائحين والزائرين والمقيمين.لا تخلو من المهرجانات والإحتفالات الدينية بصبر وزخم من العابدين والقاصدين لتأدية مناسكهم الى المعابد والهياكل على دين (الشنتو) هناك مثل ياباني لكل زائر (لا تقل كيككو أن لم تزر نيكو) وأترجمها : لا تقل أنك شاهدت العجب في شعبان أو رجب .. ما لم تزر (نيكو). في نيكو كما في سائر اليابان طبيعة خلابة وشلالات المياه والينابيع لمن يستوحي الطبيعة الخلابة.. ولكن شهرتها الأكبركونها موطن المعابد والهة الشنتو وطقوس الإحتفالات الدينية العابدية. تمر أمامك في شوارع المدينة هياكل كبيرة ومعابد ثقيلة الوزن من الخشب الصمّ بلا عجلات يحملها عدد كبير من الحجيج على الأكتاف ومظهر الجهد والعناء على وجوههم يذكرني بقول ابي الطيب المتنبي :
أتوك يجرون الحديد كأنما *** أتو بجياد ما لهن قوادم
زرت فيما بعد أحد المعابد برفقة الصديق الباقر ورايت المصلي كيف يصلي. ينخني كثيرا امام الكاهن القابع على هيئة اليوغا في اخر القاعة امام تماثيل الالهة ثم يقرع الجرس المتدلي من فوقه على طاولة النذور، ثم يصفق بيديه لإلفات نظر الكاهن، ثم يضع في الإناء ما أتى به من نذر ثم يفتح كفيه ليتم بحاجته التي يريدها من الآلهة .ثم ينحني ما شاء من انحناءات قبل أن يغادر المعبد ما شيا الى الخلف ووجهه الى الكاهن من باب الإحترام والتقديس.
علّق صديقي دون أن أساله قائلا : معظم ما يطلبه العابدون من الالهة هو المزيد من المال ثم الصحّة. ويدور في نفسي هذا السؤال: (كيف استطاع اليابانيون الجمع بين تقاليدهم وعاداتهم الموروثة وبين التقدم الحضاري في شتى المجالات . مع الاحتفاظ بلغتهم والإصرار عليها).
نماذج من حسن الأخلاق:
- ضللنا طريق السير من كيوتو الى أوساكا . وقفت لنا سيارة شخصية وقادتنا الى الطريق الصحيح . وقبل أن يفارقنا السائق وقف عند حانوت واشترى من جيبه (أيسكريم) للصغار وأزهارا لأمهم وانحنى وهو يقرؤنا السلام.
- سيّرت اليابان أول خط قطار سريع (هاكاري) بين طوكيو وأوساكا تصل سرعته الى نحو 250 كيلومتر في الساعة .يضمن للمسافرين أن لا تندلق المشروبات من أكوابها بسبب السرعة واجراء مكالمات هاتفية وهم في القاطرات، ومقاعد مريحة بعضها تقوم بالتدليك (المساج) وفي قاعات الوصول اجهزة تزود المسافرين المتعبين باستنشاق الاوكسجين. ونسيت في قطار طوكيو كامرة السينما العزيزة على المقعد. أخبرت مكتب الإستقبال عن مصيبتي وقد مرت الساعات - وأنا بين اليأس والرجاء. كتبوا لي عنوان مكتب المفقودات ولم اصدق نفسي حين وجدتها خلافا لما مر بي من تجارب مشابهة في بلدان اخرى.
- سيارات الأجرة في اليابان نظيفة مقاعدها مغطاة بأثواب بيضاء يتم تبديلها من وقت لاخر. بينك وبين السائق نافذة زجاج . لا يسمح بالجلوس جنب السائق. يعطيك الفندق اسم المكان الذي تقصده باللغة اليابانية وبطاقة اخرى بعنوان الفندق. يوصلك السائق الى مكان العنوان دون أن يسألك اين يكون او بقرب اي مكان معروف. تدفع الأجرة كما هي في العداد ولا يقبل منك اكرامية (تيب) ورفض استلام الإكراميات تقليد في اليابان.
- أوقف شرطي المرور سيارة باص تنقلنا الى مصانع لمتسوبيشي. طلب من السائق أن ينزل معه الى نقطة المرور. مكثنا ساعة أو أقل ثم رجع السائق وواصل المسير. سالت الصديق فقال : لا يتعامل شرطة المرور في المخالفة الأولى مع السائقين بالغرامة أو التعنيف المزري. أنهم يلقون عليه في مكتبهم محاضرة حول مسئولية المواطنة واحترام قوانين الدولة ويسألونه عن مبررات مخالفته للسير فأذا اقتنع واعتذر اطلقوا سراحه واذا اصر وانكر استمروا في مجادلته واقناعه لتغيير سلوكه ولو طال الوقت.
- ركبت سيارة اجرة الى المعرض الدولي في اوساكا وكانت الأجرة 500 ين ياباني في ذالك الزمن. فأعطيته بالخطأ خمسة الاف ين لتشابه الورقتين في اللون والشكل، وهرعت مسرعا الى شباك التذاكر للمعرض. وإذا بالسائق يترك سيارته في مكانها ويفتش عني بين الصفوف المتراصة ثم يسلمني باقي المبلغ. واشفقت عليه حين وجدت شرطي المرور يدون عليه مخالفة . ومن الصدف الغريبة في نفس السفرة حين وصلت مطار بغداد واعطيت السائق خمسة دنانير بدلا من 500 فلس. ثم رجعت الى المطار لأفتش عنه فقال زملاؤه انه يعود دائما للوقوف في نوبته ولكنه هذه المرة لم يعد فلا تتعب نفسك فقد غنم هذه الفرصة وهرب.
الة العيش - صحة وشباب:
ثم يكمل الشاعر المتنبي بيته فيقول : فأذا وليا عن المرء .. ولى. اهتمام اليابانيين بصحتهم البدنية والروحية لها امثلة كثيرة : الأكل الصحي – والرياضة – وتوفر مراكز العلاج ضمن الضمان الصحي والاجتماعي – وفي المعابد ساحات للتأمل الروحي - وفي مزاولة حياتهم هدوء يجنبهم الانفعال الحاد ويهب للنفس سكينة ووقارا. ونادرا ما وجدت صراخا يصم الاذان او عراكا بالأيدي والارجل. ويفضل بعضهم حتى من الوزراء الإنتحار اذا اخطأ خطأ جسيما بصمه بالخيانة أو العار. وذالك تقليد قديم من عهد المحاربين القدماء.
وتنتشر في قرى اليابان حمامات للمياه المعدنية الحارة المفيدة للصحة .. ولواحدة من تلك توجهت مع الأصدقاء. واسم تلك القرية (هيروشيما). وهي جزيرة بين جزر خلابة جنوبا من العاصمة طوكيو. حملتنا الى بعض تلك الجزر طائرة بحرية. ثم قارب سريع الى هيروشيما. كان أول مطار في البحرين في الثلاثينات وشطر من الأربعينات من القرن الماضي.. مطارا لطائرات بحرية تسيرها شركة الطيران البريطانية (بي.او.اي.سي) ويقع ذالك المطار على ساحل المنامة بالقرب من مساكن عائلة فخرو ومقريه من (المقصب) حيث كانت تذبح الأغنام لبيعها في سوق (القصابين)على الجانب الغربي من بلدية المنامة.حين ودعت والدي الذي سافر على الطائرة البحرية الى (بامباي) في الهند خلال الأربعينات .. تشوقت الى ركوبها وفاتتني الفرصة بعد اغلاق المطار البحري وافتتاج مطار البحرين الجوي في مدينة المحرق.
وحين ركبت الطائرة البحرية الى هيروشيما بعد مرور عقدين من الزمن ..شعرت انني أشبعت ذالك الشوق وتسمرت عيناي على نوافذ الطائرة البحرية لأتأمل كيف تطير من البحر ثم تنزل متهاديه على البحر في الجانب الاخر لا يثني عزيمتها تلاطم الأمواج. أما القارب السريع (واسمه القارب الطائر) الى هيروشيما فقد أثار عندي الفضول . وأذكى الغرور، وأورث السرور.وهو ايضا من اختراع اليابان ولم يوجد مثله الا في إيطاليا. ذالك لأنه بمثابة سفينة صغيرة وليس قاربا من تلك القوارب بما فيه من خدمات واتساع. وفي سرعته التي تعد بالأميال من خمسين أو أكثر في الساعة اختصار للوقت وتكاد مؤخرة القارب أن تمس الماء مسا بسبب السرعة، ومقدمته شامخة نحو السماء. نزلنا في شيراهاما في فندق مشهور اسمه (كواكيو) يشتمل على منبع من المنابع المعدنبة الصحية. والفندق مشابه للمنازل اليابانية. يستقبلونك بالترحاب والشاي وينزعون منك (الجاكيت) ويلبسونك (الكيمونو الرجالي) ويخلعون حذاءك. وفيما يلي وصف مختصر لمكونات الفندق على غرار المنازل التقليدية في اليابان:
- ارضية الفندق مكونة من قطع متراصة من أعواد الاشجار وأغصانها واسمها (تاتامي) عرضها ثلاثة أقدام وطولها ستة وسمكها أربع بوصات. يربطها من أطرافها شريط ضيق من القماش الأسود. أذا سأل الياباني عن مساحة غرفة أو صالة أو منزل فالجواب يكون بعدد تلك الحصران وليس بالياردة والأمتار.ولا حظ للحجارة أو الجدران في تلك المنازل فهي اعمدة من الخشب الأصم وفواصل للجدران من مواد طبيعية. بعضها يجر على عجلات لجمع حجرتين او فصلهما عن بعضهما. وقل عن الابواب والنوافذ ما تشاء من حيث الرقة والنعومة. فتحت باب الحمام مستعجلا فانخلع الباب في يدي. ولو أن غاضبا مستعجلا اخذته سورة الغضب لا ستطاع أن يخسف بالأبواب والنوافذ بضربة يد أو ركلة رجل. ومربعات النوافذ لا تحتمل الزجاج لخفتها فهي كالأبواب مصنوعة من خشب رقيق أبيض ولا يناسبها ألا استعمال الأوراق بدلا من الزجاج. يستطيع الأطفال من غير اليابانيين التسلي بثقب تلك الأوراق بأي اصبع شاؤا. وقال صديقي طالما شكى اهل اليابان من تصرفات أطفال المستأجرين القادمين من الشرق الأوسط من هذا التصرف المعيب.
ونعود الان الى بيت القصيد في الفندق وهو حمام السباحة في المياه المعدنية الحارة. حمام للرجال واخر للنساء يفصلهما حاجز من زجاج .. يتذرع الرجال في موضوع الحشمة بكثافة بخار الماء الذي يحجز الرؤية عن حمام النساء. كما يتذرع العراة منهم بنفس تلك الأسباب. اصدقاي المتعودين، يأخذون اولا رشاشا (دوشا) شديد البرودة ثم يقفزون في الماء الحار وهم فرحون. وأنا لا أتحمل ذالك فأنزل الى حوض السباحة بلباس السباحة رويدا رويدا لشدة حرارة الماء، وهم يضحكون. تلفحني تلك الزيارة لشيراهاما بذكريات من المحبة والصحبة والأنس والأمسيات بطلها اخي جاسم الباقر. وفي جمال الجزيرة وحدائقها وأزهارها راجة للنفس.وقد وقف شيطان الشعر على بابي بعد انصراف عن الشعر، فلم اخذله ونظمت هذه الأبيات:
ألقت على الشّاطي مراسيها
سفينة تزهو بمن فيها
تصفّقُ الريح لها فرحةً
ويشمخ الموج بها تيها
طارت بهم شوقاً وشقّت لهم
درب ضياء من مجاريها
وخلفتْ أشرعةً ريحها
تنشرها طوراً وتطويها
و أذعن البحر..فما ترتجي
في اليمِّ فلكٌ أن تباريها
هم فتية عُربٌ سما فرعهم
من مَعرقِ الأصل وشاميها
آمالهم تحملها أنفسٌ
طموحة..سبحان باريها
شحّتْ عليهم أرضهم مغنماً
فالتمسوه من أقاصيها
وفي لظى الغربة أشواقهم
تبعثها الذكرى .. فتذكيها
صدورهم أثقلها همّها
فالتمسوا للهمّ ترفيها
واستقبلتهم (شيراهاما) الهوى
نشوانةً .. رقتّ حواشيها
الحُبّ في أحضانها دافىء
كالماء يجري من سواقيها
يشفي من الأجسام أوصابها
وغلّة الأنفس يرويها
نهارهم من مرح كله
وليلهم أحلى لياليها
ويومهم يحسده أمسه
ويحسد الصبح أماسيها
مجالس بالأنس معمورة
يستظرف النكتة راويها
تستيقظ الأحلام في أكؤس ٍ
أترعه ا بالحب ساقيها
وتعزف الألحان (حورية)
يردد الشاطي أغانيها
وطابتْ الكأس لمن ذاقها
و ذاب من شوق ٍ بها.. فيها
وكل حسناء لها معجب
مولهاً بات يناجيها
وظبية البان وصيادها
بوافر العشب .. يُمنّيها
وعابد الحسن الى (ربّه)
صلى خشوعاً ليس تمويها
يعطي الصبابا خير ما تشتهي
ويبتغي (مرضاته) فيها
ويكره الأحسان من محسنٍ
لغايةٍ في النفس يقضيها
وآخر حار بها معدةً
من هادم أللّذات !! يحميها
لم تُغرِه الكأس وصهبائها
ولم تراوده أمانيها
جزيرة الاحلام يا جنةً
يحارُ فيها الوصف تشبيها
قد وقف الدهّر على بابها
يقتطف الحسن ويعطيها
يسألني خلّي في وصفها
شعراً .. وما كنت لأوفيها
ارى بنات الشعر مزهوةً
تعجب مني إذ أناديها
منذ الصبا عاهدني ثغرها
وعللتني بأمانيها
جاءت على رغمي أو رغمها
وأسلست طوعاً قوافيها
أوفَتْ بما جادتْ وها أنني
من شرفةِ الذكرى أُحيّيها
علقت نفسي بالأسفار،منذ نعومة الأظفار. أسفار برفقة والدي الى العراق في الصغر و تجوالي في الأمصار والاقطار في شبابي وفي الكبر. طفت حول الكرة الأرضية أربع مرات، وتجولت في مناكبها بالمات والعشرات. وكتبت عن بعضها نثرا، وأوفيت كثيرا منها شعرا. ومما قلته في ذالك هذه الأبيات:
قد همت بالأسفار أعشقها غراما مستحيلا
كم سابقت خطوي الشموس فكدت اسبقها وصولا
ولكم تحملت الفراق ولم أطع فيه .. عذولا
حتى أذا هاج الحنين بخاطري .. وبكى طويلا
بادرت يا وطني اليك ..فلم تكن عنّي بخيلا
ونهلت حبك موردا عذبا وماء سلسبيلا
أول سفرة لي حول العالم كانت في عام 1962 استغرقت اربعة شهور.وهي سفرة شاب في الثانية والثلاثين من العمر.تستفزه رغبة عارمة للتعرف على عالم جديد بعيد خارج الأوطان. أبتدأت الرحلة الجوية في 12 أبريل على الطيران البريطاني بي.اي.او سي. الى هونغ كونغ مع توقف في سنغافورة.ولكن الطبيعة في البحرين في هذا التاريخ كانت عاصفة مليئة بالغبار الذي تقل فيه الرؤية ..فتأخر وصول الطائرة ريثما تنجلي الرؤية حتى ما بعد منتصف الليل ووصلت المطار القديم متشوقا وهم الرحلة بين عيني. وأذا بقبطان الطائرة نافخا ريشه ملازما لمكتب تسجيل المسافرين.قلب نظره في الجواز وأمرني بالعودة الى البيت لانه لم يجد رخصة التاشيرة (الفيزا) للذهاب الى هونغ كونغ. وحاولت اقناعه بأن وكيل السفريات أكد لي بعد زعمه انه راجع دار المعتمد البريطاني .. فقالوا له لاحاجة الى رخصة الفيزة لمواطني البحرين. ثم القى الجواز بحضني بشيء من الغضب، وكتب لي اقرارا بأنه منعني من السفر ويتحمل مسؤولية ذالك. أخذ بخاطري المسئول في دار الأعتماد البريطانية وأعطاني التأشيرة وسافرت يوم 14 من أبريل الى هونغ كونغ.
وصلت المطار الصغير الكائن في شبه جزيرة في قلب مدينة هونغ كونغ. وكنت فرحا عند وصولي بأن القي عصا التسيار في بلد يستضيف الزائرين، فأذا الأمر بالضد.فقد لقيت ضباط أمن كالزبانية يأمرون ولا يؤمرون.من هؤلاء ضابط ذو نياشين على كتفه،يأمر المسافرين بلهجة حادّة قائلا: من عنده تأشيرة يصطفف على اليمين، ومن ليست لديه تأشيرة يبتعد الى اليسار.فقلت في نفسي لو لم يمنعني قبطان الطائرة في البحرين لأصبحت اليوم من أصحاب اليسار .. وما ادراك ما اصحاب اليسار.. تفحصني جيدا قبل أن يتفحص جوازي وأمرني بالدخول وكأن هونغ كونغ جنة يكفيك شرفا أنه افسح لك الطريق اليها. وقلت في نفسي ليت رضوان خازن الجنان يوم القيامة،يعطيه درسا في حسن استقبال من هم من أصحاب اليمين.. وللجمارك في فحص الأمتعة شأن عظيم.ولم يكن لدواعي الأمن وهوس الأسلحة والارهاب،الات فحص بالأشعة أو بالأيدي كما هو شأن اليوم.
هونغ كونغ في ذالك الزمن كانت صغيرة وليست عصيّة على ذرعها بالاقدام. ومع ذالك كان فيها من ازدحام الشوارع والأحياء والاسواق ما هو شبيه نسبيا بما فيها اليوم.أغلب سكانها صينيون وبعدهم من جاليات الهند.
هونغ كونغ في 1962:
نزلت في فندق في الأحياء الصينية واعجبني اسمه الشاعري (صن راي) أي شعاع الشمس.وجدت فيه خدمة جيدة ولم اجد فيه شمسا.وكان أول هميّ الحصول على تأشيرة دخول لليابان. قيل لي أنها سوف تستغرق 15 يوما أو أكثر.ولكن صديقي العزيز في اليابان رجل الأعمال جاسم محمد الباقر من العراق، وهو الوكيل المعتمد لشركة متسوبيشي الكهربائية حتى يومنا هذا، استطاع بمهارته واجادته اللغة اليابانية ان يستخرجها في أقل من اسبوع. لقد بلغ به التشوق لملاقاتي أن يغادر مكتبه ويلاحق معاملة التأشيرة في وزارة الداخلية اليابانية ثم في محاكم القضاء ثم وزارة الخارجية. وكان القضاء يتطلب حضوره شخصيا لأداء القسم امام القاضي .
ألبسها .. وتوكل :
بينما كنت أتجول في في أسواق هونغ كونغ لابسا بدلتي الأفرنجية الوحيدة التي فصلتها في البحرين، أمسك بزمامي أحد الصينيين من خياطي اطقم البدلات قائلا : سوف اصنع لك بدلة كاملة من ثلاث قطع أحسن من التي تلبسها.قلت ما عندي وقت، قال انجزها في 24 ساعة فقبلت. دفعت المقدم من الثمن واخترت قماشا من صوف خفيف يسمى (موهير) لعله من شعر الماعز اللّماع.وجاءني في غرقتي في الفندق عند المساء وجربها علي مقطوبة بالخيوط، وسلمها لي كاملة عند ظهيرة البوم التالي. فكنت الازمها في بقية أيام سفري مع ربطتي عنق جاهزتين معقودتين تتسع الواحدة منها او تضيق حسب المطلوب !! ثم اشتريت من البائعين الهنود كامرة تسجيل سينمائي 8 ملم. ماركة (كانون) في اوائل عهد انتاج الكاميرات الشخصية. وكان لها شأن كبير في حياتي.سجلت بها معظم اسفار الخارج واهم المناسبات العائلية .وهي تحمل بكرات تسجيل في حدود اربع دقائق. وشغلت نفسي حين رجعت الى البحرين في الصاق تلك البكرات وقطع المناظر المشوشة ثم تحميلها في بكرات كبيرة من حجم 8 ملم. وعرضها على الشاشات في نادي العروبة ومع العائلة والأصدقاء ومن بينهم وزراء هامّون من البحرين.واضفت بذالك هواية التسجيل الصوتي الى السينمائي.
ثم دلفت الى سوق الصيارفة واذا بسعر صرف الدولار يختلف من محل الى اخر فاخترت من وجدت عنده احسن الأسعار.استلم الدورات وخبأها واعطاني بحسب السعر الممتاز مخصوماً منه مبلغ سعي مقداره 5% فاصبح الدولار يثمن بخس اقل من غيره فلما اعترضت بسبب ان لافتة السعر بالأنجليزية ليس فيها خصم اشار الى لافتة باللغة الصينية قائلا سعر الخصم فيها مذكور والمعاملة تمّت و ليس فيها نكوص.
في هذه السفرة وجدت أن مدينة هونغ كونغ بمثابة مركز عالمي للتسوق الشخصي لاسيما القادمين من القارة الأمريكية بسسب أن الاسعار المعروضة في أسواقها اقل من اسعار المنتجات ذاتها في بلدها الأصلي. لكن المتسّوق غير الحذر كثيرا ما يقع ضحية للتلاعب أو الغش.
ملامح من هونغ كونغ:
صرت أذرع الشوارع في هونغ كونغ (كاولون) قاصدا اغلب الأحيان أكبر فنادقها وأشهرها ومن أقدمها (تأسس في عهد الأنجليز عام 1928) واسمه (باننسولا هونغ كونغ)المطل على البحر.تأخذني في الطريق دهشة العمران الشاهق وتخمة الأثرياء – وتذيب نفسي أحوال الكادحين و ذلة الفقراء.بينما يكاد الناظر من شاطيء البحر أن يلمح جزيرة (مكاو) الخاضعة انئذ للأستعمار البرتغالي.حيث تقيم ساحة لعب القمار (الكازينو) في قاعة بسيطة كبيرة تعلوها قبة واسعة يجتمع فيها اصحاب الثراء مع الجمهور الكادح نساء ورجالا ممن يوفرون من مدخولهم الشهري لأنفاقه في القمار طمعا في ربح كبير وحظ عظيم . وقد وجدت تلك القاعات مثقلة بسحب دخان السجائر في جو من الضجيج والصراخ ..فاتجهت لتفقد انحاء مكاو فكانت مجرد حوانيت ومساكن متواضعة البناء.ولم يدر بخلدي انها سوف تصيح كحالها اليوم معلما دوليا للسياحة والترفيه ومرتعا خصبا للعب القمار بعد استقلالها وعودتها الى احضان الصين.
بانينسولا فندق على الطراز والذوق الأنجليزي، يصرف للمقيمين ست وجبات في اليوم. الشاي والقهوة والكعك في الفراش في الصباح الباكر، وافطار كامل بعدها، ثم شاي او قهوة في ضحى اليوم ثم وجبة الغذاء وبعدها العشاء وبعد كل ذالك وجبة ما قبل النوم.ولعله اليوم قد بدل تلك العادات حسب مقتضيات العصر. وكان يعجبني تناول قهوة ما بعد الظهر بما يتبعها من بسكويت ومعجنات وابتسامات لطيفة. في طريقي الى ذالك الفندق جاءتني صدفة خير.تقابلت صدفة مع الشاب محمد بو خمّاس .وشركة بوخماس ومالكيها كانت مجاورة لمحلنا على امتداد شارع الشيخ عبد الله في سوق المنامة.نتزاور ونتحاب ونحن نرتشف فناجين القهوة والشاي من المقهى المجاور.كان صاحب المقهى يعمم رأسه بغترة (شماغ) سوداء باعتباره سيدا في نسبه، وكنا نحترمه رغم مزاجه الحاد،وهو يغرينا بتمسكه بالنظافة وغسل الأكواب بعناية.
كانت فرحة لقائنا عارمة متنامية المشاعر بين الصداقة وألفة الغربة. قال انه مثلي ينتظر تأشيرة السفر الى اليابان وأنه سوف ينتظر لمدة 15 يوما. فصار سفري لليابان قبل سفره. وفي هونغ كونغ طاردني طيف الوطن وفراق الأسرة، وولدي أسامة في شهره الثاني بعد الولادة ..وهزني الشوق فارسلت لأمه هذه الأبيات:
"أسامة " تسلو به أمه *** أن غاب عنه والد في السفر
عيناه .. عيناه وفي وجهه *** شبه وفي المبسم منه أثر
يرفرف الحب على مهده *** ويكبر الحبّ اذا ما كبر
هكذا أخذتني تلك السفرة الأولى حول العالم في 1962 الى المحطة الأولى في هونغ كونغ ثم تلتها محطّات ومحطّات أشبعت ذاكرتي الفتية بمشاهد من المدن والبحاروضفاف الأنهار وشوامخ الجبال ذوات الرؤؤس البيض والخضر واوديتها المزهرة فاتنة الجمال – في عشرة مع المعارف والأصدقاء، أو في وحدة تسلو النفس بعجائب المشاهد السياحية. واصبح حالي كما وصفة الأديب الشاعر عبد الرحمن القصيبي حين قال:مشكلتي الحقيقية ليست النسيان،مشكلتي كثرة الذكريات.
حاولت أن أطأ أكثر عدد من المدن والبلدان تسمح بها تذكرة سفري حول العالم والتي تشترط مواصلة السفر في اتجاه واحد نحو الشرق دون رجوع الى الخلف.الى أن استقر في البلد الذي سافرت منه.لأكون –ربما- شاهدا على كروية الأرض واستدارتها. وما خرج عن خط الرحلة تحملت تكلغته - ومدن تلك البلدان جاءت على النحو التالي:
(اليابان – جزائر هانولولو – لوس أنجلوس – دزني لاند – لاس فبجوس – سان فرانسسكو – سياتل – شيكاجو (أيوا) واشنطن – نيويورك – شلالات نياغرا- تورنتو كندا –لندن – بلجيكا – هولندا – الدنيمارك - هامبورغ – فرنسا – أسبانيا –روما – اليونان – بيروت – العراق – الكويت – البحرين).
دهشة المدن الأولى:
زيارة مدينة او بلاد بعيدة للمرة الأولى لها طعم خاص كطعم الفاكهة التي لم تذقها من قبل ..تقف أمامك تلك المدن شامخة وانت وحيد . تسترشد يالأدلّاء بدلا من الأصدقاء. تلقاك في كامل زينتها مثل فتاة متبرجة ولا تعرف بواطنها ألا بتكرار الزيارة حين تفتقد في نفسك منها سحر العينين الغامضتين.. تلازمك الدهشة حيثما تسير. ويستولي عليك الحذر من المجهول. الزيارة الأولى تبقى في النفس والزيارات المتكررة بعدها تفتقد تلك الدهشة الطفولية العفوية أمام عالم لا تعرفه حتى تكتشف سره سرا يعد سر.
وأراني لتلك الأسباب مندفعا لسرد ذكرياتي الأولى لمشاهداتي في اول مواعيد لقائي بساحات تلك المدن والبلدان. – ألا فيما ندر - أما مدى التغير والتطوّر والتقدم الحاصل بعد ذالك فلم يصبح له الان سرّ ولا سحر بفضل تنوع وسائل العلم والمعرفة وامتداد شبكة الأتصالات. ومن تلك المدن والبلدان بلاد اليابان.
أرض الشمس المشرقة:
كانت اليابان تحمل هذا اللقب لقربها من خط التوقيت الدولي خيث تشرق الشمس غلى الغرب في يوم يختلف فيه التوقبت الدولي بين ما يقع شرق الخط وغربه.فأما ان تكسب يوما من الأسبوع أو تخسر يوما حسب الأتجاه. وتسلم شركة الطيران لمن يعبر خظ التوقيت الدولي في أي اتجاه شهادة موقعة ومختومة. والمفروض أن تكون عندي منها اربع شهادات لا ادري اليوم اين وضعتها بعد تلك السنين.
أليابان: من أين نبدأ؟ كانت هي الزيارة الأولى. من هونغ كونغ توجهت الى اليابان في 18أبريل 1962. تبعتها زيارات متعددة بعضها للأعمال التحارية وبعض للمشاركاة في مؤتمرات اتحاد شركات التأمين كوني نائبا لرئيس شركة التأمين الأهلية في البحرين ثم رئيسا لها. وللمعلومات، فاليابان اسسها الأمبراطور (جيمو) سنة 660 قبل الميلاد. وتأسست الملكية فيها بعد الحرب العالمية الثانية أبان احتلال أمريكا لليابان في 3 مايو - 1947. ونسبة التعليم بين سكانها تساوي في عام 1991 نسبة 99% !!
وأهم مدنها : طوكيو – العاصمة / أوزاكا – مركز التجارة /يوكوهاما – الميناء المهم في صناعة السفن / كوبه – ميناء / ناجويا / ساموورو / كيوتو : حيث المعابد وتماثيل الالهة / هيروشيما ونجاشي – المدمرتين بالقنابل الذرية الأمريكية / ونيكو – مقصد السائحين للطقوس الدينية (الشنتو) / وجبل فوجي – مقصد السواح حيث تغطي قممه الثلوج طوال العام.
أصبحت اليوم المعلومات المتعلقة بالنظام السياسي والأقتصادي والأحوال الاجتماعية، ومزايا تلك المدن وغيرها من مدن اليابان – اصبح كل ذالك في متناول اليد لمن يقلب الأوراق ومن يفتح شبكات الأنترنت كما اصبح من يقصد اليابان للسياحة والتعرف عليها مثقلا بالمعلومات وهو في حبرة من أمره وكأنه يقول : من أين نبدأ.. فلا داعي أذن لمزيد من الشرح.
أما توجهي انذاك لليابان فكانت له ثلاثة أغراض: الأول تجاري لملاقات الصديق جاسم الباقر وكيل شركة (متسوبيشي الكهربائية) وزيارة معارضها ومصانعها ومواقعها. وهي تنتمي الى مجموعة شركات متسوبيشي العملاقة التي تحتضن معظم الصناعات من طيران واسطول بحري ومصانع حربية (طائرات " زيرو" التي كانت تقصف الأساطيل الأمريكية بالطريقة الإنتحارية في الحرب العالمية الثانية .. كانت من صنع متسوبيشي) بالأضافة الى مصانع الإنتاج الاستهلاكي الصناعي والبنوك وشركات استثمار وغيرها.
الغرض الثاني هو السياحة والإطلاع على معالم اليابان السياحية واحوال المدن والسكان. والغرض الثالث الإستجمام في منتجعاتها الصحية والاستشفاء بمياهها المعدنية الساخنة.
المطار اللذي يبتسم:
وطأت أرض مطار طوكيو البعيد نسبيا عن العاصمة. ووجدت الصديق الباقر في انتظاري،وقد خفف من وعثاء سفري اثناء معاملات الوصول في المطار -- تلك الإبتسامات والانحناءات امامي وكلمات الترحيب والشكر باللغة اليابانية (دومو اريكاتو كوزيمش). وكان الفندق الذي اختاره لي الصديق في قلب طوكيو قبل التوجه الى مكتبه في اوساكا..هو الفندق المشهور القريب من قصر الإمبراطور .. فندق (أمبريال هوتل.). كان افطار الصباح شهيا بقاعته التقليديه ومنظر الحديقة امامه ولطف الاستقبال من قبل السيدات باللباس التقليدي الياباني وحسن المعاملة من الموظفين . واعجبني صحن (الوفلز) تلك العجينة المخبوزة على شكل خلايا النحل. نملؤ اجوافها بالعسل او (السيروب) المستخرج من بعض الأشجار ..عملية شاعرية يسيل لها اللعاب.
الصديق جاسم الباقر رجل أعمال متمرس يعرف من أين تؤكل الكتف .يستضيف المسئولين في شركة متسوبيشي بكرم بالغ.وعلى الموائد وهو مضيفهم، تراهم على عادة أهل اليابان والصين – وهم يلتقطون طعامهم على مهل. بأقلام العصيّ اامخصّصة -، يستفيدون من الزمن البطيء في ترتيب افكارهم وأجوبتهم وبعض النكات الساذجة. وحينما ينشغلون ظاهريا بتلك الأعواد الخشبية أو الفضّية التي يتناولون بها افاضل الطعام ثم يلاحقون اخر ما يتبقى في الصحن من حبة رز أو قطع صغيرة متناثرة بمهارة عجيبة وبتأن وهدوء وكأنهم يقولون معنا (رحم الله من نظف الأناء.)وفي هذا الجو من الألفة والأنسجام، وعلى انخاب الشراب .. أو فيما بعد – يستطيع اخونا الباقر أن يسمعهم بطريقة ودية بعضا من مطالبه بالنسبة للأسعار أو الخدمات.وهم يهزون رؤؤسهم ولا تدري هل ان ذالك يعني الموافقة او غير ذالك ..فلا بد لكل مسئول ياباني أن يراجع مديره قبل نعم أو لا.
ومع الأصدقاء، لا تفوت الباقر مواقف التنكيت على الأقوال والأفعال.وعنده قدرة على اكتشاف نقاط الضعف مع الصديق واستعمالها (كمقلب) في بعض المواقف المسلية. كنت أصر عليه دائما بالحضور المبكر عند السفر معا في القطار من طوكيو الى الى اوساكا وبالعكس.فكان يتعمد التأخر عن موعد سفر القطار حتى اخر دقيقة..ويعجبه منظري وانا اجري خلفه لركوب القاطرة وقد بدأت بالمسير ليدفع اجرة التذاكر للمحصّل في القاطرة بدلا من شباك التذاكر المزدحم.
ويحضرني بهذه المناسبة مثال اخر .. حين استضاف الباقر أخي صادق وكان يأخذه في سيارته لمشاهدة جمال الطبيعة على مرتفعات الجبال ومنحدراته المخبفة، ويطلب من اخي صادق أن يستدير برأسه لمشاهدة المناظر والوديان وأغلب الظن أنه يعلم أن اخي يعاني من الم في رقبته واخي يجيب :السيارة ترينا تلك المناظر دون الحاجة الى أن الوي رقبتي لرؤيتها.
ومثال ثالث حين كان يمشي في الشارع مع رجل أعمال من الخليج مقيم معه في اوساكا متعود على (البصبصة) للفتيات يروي لنا قصته معه وهو يسترسل ضاحكا : فيقول.أسأله وأنا عارف بميوله - ما الذي اعجبك في هذه الفتاة وليست جميلة – فيجيبني اعجبتني رقبتها، والثانية بغير جمال أعجبه قوامها،والثالثة مثلهما أعجيته سيقانها. أما التي ليست لها رقبة جميلة ولا قوام ولا سيقان فكان جوابه: أعجبتني أخلاقها..وكيف عرفت اخلاقها وهي تمشي فيقول: أنها الفراسة والحّس الداخلي ..!! والباقر مع الاصدقاء، كريم الوجه واليد واللسان – على عكس قول الشاعر المتنبي – من اصدقائه التجار المقيمون في أوساكا – نفر من اطايب الأصدقاء معظمهم جاء من سوريا ولبنان اغلبهم في تجارة الأقمشة والمنسوجات أوصيارفة عرفت منهم: ألياس عجلون وجون شهود وفيليب عجلون – محمد اللبابيدي – والسيد عوني - وأميل شلهوب.كان يستبقهم في معظم المناسبات بدفع فواتير الأكل والشراب أوالأقامة بسبب اتقانه اللغة اليابانية وسرعة مبادراته
للتفاوض مراسم وفنون :
التفاوض مع الشركات في اليابان ومدرائها الكبار له في اليابان تقاليد وأصول. يستسيغها رجال الاعمال الشرقيين لما فيها من لمسات الألفة ويتذمر منها رجال الأعمال من أهل الغرب وبالأخص الأمريكيين لأنهم اهل عجلة من أمرهم و لاعتيادهم على الأتصال المباشر في عصر السرعة وكون الوقت عندهم من ذهب. ولاكتظاظ مواعيدهم في وقت ضيق وقصير. كتب لي الصديق الباقر حين زار امريكا وقال بهذا الخصوص :جعلتني هذه السفرة احترم طريقة العمل في اليابان أكثر من السابق.
وقد جرت محادثاتي مع المسئولين في شركة متسوبيشي على النحو التالي:
تأخذك فتيات الأستقبال عند وصولك الى صالة استراحة.حيث تستضاف بمناشف الوجه حارة او باردة وبالشاي الأخضر او الاصفر الياباني مع قطعة من حلاوة (التوفي) مشفوعة بابتسامات وانحناءات وكلمات الترحيب حتى تقرّ عينك وترتاح أعصابك.وسيتسنى لك وأنت تنتظر.. تقليب بعض الصفحات عن نشاط الشركة أو التمعن في الصور على الجدران.ثم يأتي نائب المدير العام وبعد كلمات الترحيب يبدأ بسؤالك عن أسمك وعنوانك ويتبادل معك بطاقة الشركة مع عدد من الأنحناءات والايتسامات. ثم يسألك عن الغرض من المقابلة وموقعك من الشركة التي تمثلها. وهو يكتب كل ذالك ويأخذ ورقته الى مكتب الرئيس.ويغيب عنك حتى يأذن رئيسه بالدخول. وقد أوصاني الصديق الباقر فنفذت وصاياه وكانت توصياته كالاتي: (في لقاء المدير العام تقدم لك مجددا مناشف الوجه والشاي و يكون الحديث حديث مجاملات و في امور عامة يسألك عن بلادك وعن الطقس وعن حسن اقامتك في اليابان وما شابه.. لا يسألك عن امور شخصية ولا تبحث معه تفاصيل اغراض المهمة التي جئت من أجلها، فقد أعد لهذه الأمور مختصين ومهندسين تبحث معهم المواضيع التي تريد مناقشتها بعد انتهاء المقابلة.وكأني توقعت مثل هذا الجو قبل سفري من البحرين فقدمت له هدية معنوية بدلا من هدية مادية.كانت عبارة عن لوحة رسم زيتية من رسم الفنان كريم العريض. تطلبت مني خلال السفر اقصى الحذر أن لا يمسها سوء.وقد فرح بها وشكرني فوق ما تصّورت.
تفاوض يشبه الإستجواب :
لم أكن أتوقع أن اجلس على رأس طاولة مفاوضات في مقابل أعداد من المختصين والمهندسين لكل نوع من منتجات متسوبيشي التي كنا نستوردها للبحرين وقطر. طاقم للثلاجات واخر لمكائن الخياطة وثالث للتلفزيونات – في أوائل عهدها- واخرون لمراوح الطاولة ومراوح السقف – وكانت الأكثر رواجا انذاك. كل جهة أعدت لي سيلا من الأسئلة لابد أن اجيب عليها قبل أن ابدأ بملاحظاتي ومطالبي بالنسبة للأسعار والخدمات وغير ذالك.واستغرقت تلك الإجتماعات تسع ساعات متواصلة دون انقطاع فيما عدا فترة تناول (السندويج) في وقت الغذاء. ولكل طاقم كاتب يدون المحضر في زي مترجم وحقيقة شاهد على ما يدور من كلام. الأمر الذي اعاد الى ذاكرتي ما حضرته من اجتماعات تجارية في الدول الاشتراكية حين يكون المترجم عينا على الحاضرين عند جهات المراقبة الرسمية.
أبتكارات متسوبيشي :
لا يخلو منزل أو مكتب في اليابان من منتجات شركة متسوبسشي (وتعني الكلمة ثلاث نجمات بشكل المعين). إبتكرت متسوبيشي في عام 1962 أول تلفزيون صغير(ميكرو) بشاشة 6 بوصات للتركيب على المقاعد الخلفية للسيارات، أو لاستعمالها في التنقل اعتمادا على البطاريات فيها. كما ابتكرت أول كامرة فيديو يمكن مشاهدة مناظرها على شاشة التلفزيون. وتبتعتها بعد ذالك شركة (سوني) المشهورة. وقد وجدت ضالتي المنشودة في هذين الإختراعين. بعد ما يقرب من عام ستكون البحرين على موعد يترقبه الجمهور لافتتاح معرض البحرين التجاري الثالث في حديقة الأندلس في شهر مارس 1963 – بامتياز عما سبقه بالنسبة للمكان و المساحة والشركات والمنتوجات.وقد حجزت شركتنا موقعا مناسبا في ذالك المعرض سوف نصممه على شكل معبد ياباني (باكودا) للفت الأنظار.
لعب التلفزيون الميكرو الصغير وكاميرة الفيدو دورا كبيرا في اجتذاب الزائرين ودهشتهم لهذين الإختراعين لأول مرة في البحرين. كانوا يتزاحمون لمشاهدة انفسهم لأول مرة على شاشات التلفزيون ويقومون بحركات استعراضية او الرقص احيانا رجالا ونساء وأطفالا. وتزاحم جمهور اخر لمشاهدة الأفلام السنمائية التي سجلتها في رحلتي من الكاميرة السينمائية التي اشتريتها من هونغ كونغ. وأهم تلك المناظر كان تغطيتي السينمائية لمعرض (أكسبو) الدولي في مدينة (سياتل) الأمريكية. وتضمنت تلك المشاهد العاب السرك والمشي على الحبال (الاسلاك) ومن على ظهر الدراجات من مرتفع شاهق وخطير ببراعة مدهشة.
وقد استفدنا من خبرة المهندس الكهربائي المرحوم "عباس حفاظ" في تركيب تلك الأجهزة وتوصيل أسلاكها وصيانتها. كان الخبر الذي حمل الينا السرور زيارة معرضنا من قبل صاحب العظمة امير البحرين الشيخ عيسى بن سلمان ال خليفة.الذي أبدى أعجابه بالمعرض وأمر بتركيب الكاميرا والفيدو في احد القصور..وقام السيد عباس حفاظ بتنفيذ ذالك بعد انتها المعرض. والمفاجأة السارة بعد ذالك أن معرضنا فاز بالجائزة الأولى واستلمنا كأسا كبيرة من الفضة تخلد تلك المناسبة.
عين رأت .. وأذن سمعت :
فتحت عيني في اليابان على وجوه شتى من البشر. معظمها وجوه ناضرة بالايتسامة، وأقلها ما فيها حزم وجهامة. تنحني لك الرؤؤس بالمجان ولا تقبل منك رشوة ولا احسان. لا تقول لك كلمة لا، الا وقبلها نعم. بنبرة فبها تأسف وندم. واللباس التقليدي للنساء فيه وقار وحشمة..طبقات من الحرير المزركش بعضها فوق بعض ورزمة من الأقمشة الموثفة بعناية وفنّ، تحت الرقبة بين المنكبين. ودبيب أقدامهن المتوازن كرقص (الباليه) يحكي فرحا ولا يختال مرحا.
في مدينة (كيوتو) ومدينة (نارا) في الدرك الاسفل من طوكيو، بعد أن تطوف بالمعابد والهة (الشنتو) تستدرجك روائح البخور الى حفلات تفدبم الشاي على التقاليد اليابانية العريقة. وسوف ترى كيف تجلس نساء (الجيشا) باللباس التقليدي الى طاولة الشاي على المسرح. ويجلس طالب الشاي في الجانب المقابل وكلاهما على هيئة رياضة التأمل (أليوجا) وعلى الجانب اواني أوراق الشاي الأخضر والأصفر وما هو مجتني من رؤؤس الجبال وهو اغلاها سعرا. والمضيفة تشغل نفسها بغلي الشاي – وكأنها لا تراك – تصبّه في ثلاث دلال أو أكثرمن النحاس أو الخبث، واحدة بعد الأخرى .وكأنها تستعرضه لأثارة الشهية أو الفضول.أو لاتقانها هذا الفن .عليك أن تتلقى كوب الشاي على راحة يدك وتديره يمنة أويسرة حسب الأصول ثم ترشف الشاي رشفا وليس شربا. وحفلات الشاي لها قدم راسخ في التراث الياباني منذ القدم.مقترنة بقيم اجتماعية وروحيّة. أما خصائص الشاي الياباني الصحية، فقد تاه في تحليلها العلماء.
وإذا حان وقت الرقص والغناء التقليدي على المسرح، فلا تتوقع فيه هز البطون..وأنما هن فتيات الجيشا أو كبارهن في السّن، بلباسهن الياباني وحركات راقصة بطيئة مع تموجات الأيدي والأجسام وغناء يصدر بعمق من الحناجر يحكي قصص حب وغرام. ترافق كل ذالك موسيقى وطبول وأشرطة ملونة تسبح في الفضاء..يشترك في ذالك العرض نساء ورجال بحسب الأدوار.
ونداء المعدة لا بد وان يلح عليك بعد طول تجول وحب استطلاع. أعجبني من المشهيات المقلية صحن (التامبورا) المشتمل على الربيان (الجمبري) والخضار وثمار البحر وما يضاف الى ذالك وكلها ممرغة بالدهون الخفيفة على المعدة. ومن الأكلات الصحية (الشابو شابو والساكي ياكي) لحوم وخضار ومشروم يتم تحضيرها في الماء المغلي استطيب شرب مائه ايضا كحساء لذيذ .ومن الأعراف اليابانية والصينية أن تشرب الحساء بصوت مسموع تعبيرا عن الأعجاب. والأكلة الثالثة التي أعجبتني هي (تابان ياكي) عبارة عن صاج مشواة كبيرة دائرية تتسع لثمانية أشخاص وربما أكثر. ومن تحته نار الله الموقدة. يجلس حول هذا الصوان الموقد أصدقاء أو غرباء يجمعهم نداء المعدة وتفتح شهيتهم روائح الشواء. وتتسمر أعينهم على منظر الشواء بلباسه الابيض النظيف،وهو يستعمل سكينه لتقطيع اللحم بمهارة وسرعة ثم مجرفته يتفنن فيها لتقليب اللحم في الهواء، ولكل من الجالسين قطعة اللحم التي اختارها يجرفها الشواء الى حضنه مع خليط من الخضار المشوية دون أن يتحرك الشواء من مكانه
ومن النصائح لمن يعجبه اكل الشواء من اللحم الكوبي والبقرات المدللة بالمساج اليومي لتليين عضلاتها بالبيرة وما شابه – أن يتلمس حافظة نقوده قبل أن يتورط في دخول المطاعم اليابانية المشهورة. في سفرتي هذه كانت التكلفة 120 دولارا للشخص أو اكثر مع الشراب.وسعر البطيخة المتوسطة الحجم كان 100 دولار..واسعار هذا الوقت قل فيها ما تشاء. ولا أنسى أكلة السمكة بكامل هيئتها منضوجة على البخار (ستيم فيش) منضودة بالأعشاب والبهار. بقية اصناف الماكل في اليابان كثيرة فيها من أكثرما يدب او يسبح أو يطير. أو ما ينبت من خشاش الارض أو على شواطيء البحار والأنهار. ومثل ذالك في بلاد الصين. وما كنت أتصور أن سمكا يحمل جسمه سما قاتلا للبشر أقوى من سم (السايونايد) سوف يصبح في اليابان مقصد الأثرياء ومصرع المغامرين بحياتهم احيانا. وأن لحمه من الغلاء بحيث لا تستطيح تحمّله الا جيوب أهل الثراء .واسم هذا السمك السام هو (فوجو) تستعمل مطاعمه المختصة اطباء جراحين لاستخراج السموم من السمكة وطباخين مهرة قبل تقديمها لمن يجتاز الزحام عليها. وأذا أخطأ الطبيب ولو قليلا، فاكتب على اكلها السلام.
فواكه لها طقوس:
سألت صديقي – وهو خلف مقعد السيارة – تجوب بنا بين الجبال والسهول والوديان رائعة الجمال – أرى مناظر على مد البصر لشجيرات ثمارها ناصعة البياض كأنها بعض الأزهار. فقال تلك هي فواكه (الفراولة) يحرص المزارعون على تغليف كل ثمرة منها بأحكام بأكياس من (البلاستيك) يحفظونها من الحشرات والغبار فتجيء كل حبة لامعة نظيفة لاكلها. وسعرها يتناسب مع الجهد المبذول فيها. أما ثمرة الكرز وأزهارها فلها شأن أكبر في تقاليد اليابانيين. وتسمى تلك الأزهار (الساكورا) ولهذه الكلمة عند اليابانيين مثل السّحر في النفوس. في موسم الربيع وحين تتفتح أزهار الكرز تقام المهرجانات في اليابان وأهمها مهرجان (شيباطا) للساكورا الذي يقام كل سنة في بداية شهر أبريل وذالك في محافظة (مياغي). وللساكورا شعار وطني ولها أغنية عريقة في التاريخ يحفظها اليابانييون عن ظهر قلب. حفظت تلك الأغنية فوجدتها تقرب نفوس اليابانيين لمن يحفظها أو جزأ منها ثم يشاركونه في الغناء فترفع الكلفة وتقوي الألفة وتكسب الأصدقاء.
(نيكو) وما أدراك ما هي:
نيكو مدينة في اليابان تتقاطر عليها أفواج السائحين والزائرين والمقيمين.لا تخلو من المهرجانات والإحتفالات الدينية بصبر وزخم من العابدين والقاصدين لتأدية مناسكهم الى المعابد والهياكل على دين (الشنتو) هناك مثل ياباني لكل زائر (لا تقل كيككو أن لم تزر نيكو) وأترجمها : لا تقل أنك شاهدت العجب في شعبان أو رجب .. ما لم تزر (نيكو). في نيكو كما في سائر اليابان طبيعة خلابة وشلالات المياه والينابيع لمن يستوحي الطبيعة الخلابة.. ولكن شهرتها الأكبركونها موطن المعابد والهة الشنتو وطقوس الإحتفالات الدينية العابدية. تمر أمامك في شوارع المدينة هياكل كبيرة ومعابد ثقيلة الوزن من الخشب الصمّ بلا عجلات يحملها عدد كبير من الحجيج على الأكتاف ومظهر الجهد والعناء على وجوههم يذكرني بقول ابي الطيب المتنبي :
أتوك يجرون الحديد كأنما *** أتو بجياد ما لهن قوادم
زرت فيما بعد أحد المعابد برفقة الصديق الباقر ورايت المصلي كيف يصلي. ينخني كثيرا امام الكاهن القابع على هيئة اليوغا في اخر القاعة امام تماثيل الالهة ثم يقرع الجرس المتدلي من فوقه على طاولة النذور، ثم يصفق بيديه لإلفات نظر الكاهن، ثم يضع في الإناء ما أتى به من نذر ثم يفتح كفيه ليتم بحاجته التي يريدها من الآلهة .ثم ينحني ما شاء من انحناءات قبل أن يغادر المعبد ما شيا الى الخلف ووجهه الى الكاهن من باب الإحترام والتقديس.
علّق صديقي دون أن أساله قائلا : معظم ما يطلبه العابدون من الالهة هو المزيد من المال ثم الصحّة. ويدور في نفسي هذا السؤال: (كيف استطاع اليابانيون الجمع بين تقاليدهم وعاداتهم الموروثة وبين التقدم الحضاري في شتى المجالات . مع الاحتفاظ بلغتهم والإصرار عليها).
نماذج من حسن الأخلاق:
- ضللنا طريق السير من كيوتو الى أوساكا . وقفت لنا سيارة شخصية وقادتنا الى الطريق الصحيح . وقبل أن يفارقنا السائق وقف عند حانوت واشترى من جيبه (أيسكريم) للصغار وأزهارا لأمهم وانحنى وهو يقرؤنا السلام.
- سيّرت اليابان أول خط قطار سريع (هاكاري) بين طوكيو وأوساكا تصل سرعته الى نحو 250 كيلومتر في الساعة .يضمن للمسافرين أن لا تندلق المشروبات من أكوابها بسبب السرعة واجراء مكالمات هاتفية وهم في القاطرات، ومقاعد مريحة بعضها تقوم بالتدليك (المساج) وفي قاعات الوصول اجهزة تزود المسافرين المتعبين باستنشاق الاوكسجين. ونسيت في قطار طوكيو كامرة السينما العزيزة على المقعد. أخبرت مكتب الإستقبال عن مصيبتي وقد مرت الساعات - وأنا بين اليأس والرجاء. كتبوا لي عنوان مكتب المفقودات ولم اصدق نفسي حين وجدتها خلافا لما مر بي من تجارب مشابهة في بلدان اخرى.
- سيارات الأجرة في اليابان نظيفة مقاعدها مغطاة بأثواب بيضاء يتم تبديلها من وقت لاخر. بينك وبين السائق نافذة زجاج . لا يسمح بالجلوس جنب السائق. يعطيك الفندق اسم المكان الذي تقصده باللغة اليابانية وبطاقة اخرى بعنوان الفندق. يوصلك السائق الى مكان العنوان دون أن يسألك اين يكون او بقرب اي مكان معروف. تدفع الأجرة كما هي في العداد ولا يقبل منك اكرامية (تيب) ورفض استلام الإكراميات تقليد في اليابان.
- أوقف شرطي المرور سيارة باص تنقلنا الى مصانع لمتسوبيشي. طلب من السائق أن ينزل معه الى نقطة المرور. مكثنا ساعة أو أقل ثم رجع السائق وواصل المسير. سالت الصديق فقال : لا يتعامل شرطة المرور في المخالفة الأولى مع السائقين بالغرامة أو التعنيف المزري. أنهم يلقون عليه في مكتبهم محاضرة حول مسئولية المواطنة واحترام قوانين الدولة ويسألونه عن مبررات مخالفته للسير فأذا اقتنع واعتذر اطلقوا سراحه واذا اصر وانكر استمروا في مجادلته واقناعه لتغيير سلوكه ولو طال الوقت.
- ركبت سيارة اجرة الى المعرض الدولي في اوساكا وكانت الأجرة 500 ين ياباني في ذالك الزمن. فأعطيته بالخطأ خمسة الاف ين لتشابه الورقتين في اللون والشكل، وهرعت مسرعا الى شباك التذاكر للمعرض. وإذا بالسائق يترك سيارته في مكانها ويفتش عني بين الصفوف المتراصة ثم يسلمني باقي المبلغ. واشفقت عليه حين وجدت شرطي المرور يدون عليه مخالفة . ومن الصدف الغريبة في نفس السفرة حين وصلت مطار بغداد واعطيت السائق خمسة دنانير بدلا من 500 فلس. ثم رجعت الى المطار لأفتش عنه فقال زملاؤه انه يعود دائما للوقوف في نوبته ولكنه هذه المرة لم يعد فلا تتعب نفسك فقد غنم هذه الفرصة وهرب.
الة العيش - صحة وشباب:
ثم يكمل الشاعر المتنبي بيته فيقول : فأذا وليا عن المرء .. ولى. اهتمام اليابانيين بصحتهم البدنية والروحية لها امثلة كثيرة : الأكل الصحي – والرياضة – وتوفر مراكز العلاج ضمن الضمان الصحي والاجتماعي – وفي المعابد ساحات للتأمل الروحي - وفي مزاولة حياتهم هدوء يجنبهم الانفعال الحاد ويهب للنفس سكينة ووقارا. ونادرا ما وجدت صراخا يصم الاذان او عراكا بالأيدي والارجل. ويفضل بعضهم حتى من الوزراء الإنتحار اذا اخطأ خطأ جسيما بصمه بالخيانة أو العار. وذالك تقليد قديم من عهد المحاربين القدماء.
وتنتشر في قرى اليابان حمامات للمياه المعدنية الحارة المفيدة للصحة .. ولواحدة من تلك توجهت مع الأصدقاء. واسم تلك القرية (هيروشيما). وهي جزيرة بين جزر خلابة جنوبا من العاصمة طوكيو. حملتنا الى بعض تلك الجزر طائرة بحرية. ثم قارب سريع الى هيروشيما. كان أول مطار في البحرين في الثلاثينات وشطر من الأربعينات من القرن الماضي.. مطارا لطائرات بحرية تسيرها شركة الطيران البريطانية (بي.او.اي.سي) ويقع ذالك المطار على ساحل المنامة بالقرب من مساكن عائلة فخرو ومقريه من (المقصب) حيث كانت تذبح الأغنام لبيعها في سوق (القصابين)على الجانب الغربي من بلدية المنامة.حين ودعت والدي الذي سافر على الطائرة البحرية الى (بامباي) في الهند خلال الأربعينات .. تشوقت الى ركوبها وفاتتني الفرصة بعد اغلاق المطار البحري وافتتاج مطار البحرين الجوي في مدينة المحرق.
وحين ركبت الطائرة البحرية الى هيروشيما بعد مرور عقدين من الزمن ..شعرت انني أشبعت ذالك الشوق وتسمرت عيناي على نوافذ الطائرة البحرية لأتأمل كيف تطير من البحر ثم تنزل متهاديه على البحر في الجانب الاخر لا يثني عزيمتها تلاطم الأمواج. أما القارب السريع (واسمه القارب الطائر) الى هيروشيما فقد أثار عندي الفضول . وأذكى الغرور، وأورث السرور.وهو ايضا من اختراع اليابان ولم يوجد مثله الا في إيطاليا. ذالك لأنه بمثابة سفينة صغيرة وليس قاربا من تلك القوارب بما فيه من خدمات واتساع. وفي سرعته التي تعد بالأميال من خمسين أو أكثر في الساعة اختصار للوقت وتكاد مؤخرة القارب أن تمس الماء مسا بسبب السرعة، ومقدمته شامخة نحو السماء. نزلنا في شيراهاما في فندق مشهور اسمه (كواكيو) يشتمل على منبع من المنابع المعدنبة الصحية. والفندق مشابه للمنازل اليابانية. يستقبلونك بالترحاب والشاي وينزعون منك (الجاكيت) ويلبسونك (الكيمونو الرجالي) ويخلعون حذاءك. وفيما يلي وصف مختصر لمكونات الفندق على غرار المنازل التقليدية في اليابان:
- ارضية الفندق مكونة من قطع متراصة من أعواد الاشجار وأغصانها واسمها (تاتامي) عرضها ثلاثة أقدام وطولها ستة وسمكها أربع بوصات. يربطها من أطرافها شريط ضيق من القماش الأسود. أذا سأل الياباني عن مساحة غرفة أو صالة أو منزل فالجواب يكون بعدد تلك الحصران وليس بالياردة والأمتار.ولا حظ للحجارة أو الجدران في تلك المنازل فهي اعمدة من الخشب الأصم وفواصل للجدران من مواد طبيعية. بعضها يجر على عجلات لجمع حجرتين او فصلهما عن بعضهما. وقل عن الابواب والنوافذ ما تشاء من حيث الرقة والنعومة. فتحت باب الحمام مستعجلا فانخلع الباب في يدي. ولو أن غاضبا مستعجلا اخذته سورة الغضب لا ستطاع أن يخسف بالأبواب والنوافذ بضربة يد أو ركلة رجل. ومربعات النوافذ لا تحتمل الزجاج لخفتها فهي كالأبواب مصنوعة من خشب رقيق أبيض ولا يناسبها ألا استعمال الأوراق بدلا من الزجاج. يستطيع الأطفال من غير اليابانيين التسلي بثقب تلك الأوراق بأي اصبع شاؤا. وقال صديقي طالما شكى اهل اليابان من تصرفات أطفال المستأجرين القادمين من الشرق الأوسط من هذا التصرف المعيب.
ونعود الان الى بيت القصيد في الفندق وهو حمام السباحة في المياه المعدنية الحارة. حمام للرجال واخر للنساء يفصلهما حاجز من زجاج .. يتذرع الرجال في موضوع الحشمة بكثافة بخار الماء الذي يحجز الرؤية عن حمام النساء. كما يتذرع العراة منهم بنفس تلك الأسباب. اصدقاي المتعودين، يأخذون اولا رشاشا (دوشا) شديد البرودة ثم يقفزون في الماء الحار وهم فرحون. وأنا لا أتحمل ذالك فأنزل الى حوض السباحة بلباس السباحة رويدا رويدا لشدة حرارة الماء، وهم يضحكون. تلفحني تلك الزيارة لشيراهاما بذكريات من المحبة والصحبة والأنس والأمسيات بطلها اخي جاسم الباقر. وفي جمال الجزيرة وحدائقها وأزهارها راجة للنفس.وقد وقف شيطان الشعر على بابي بعد انصراف عن الشعر، فلم اخذله ونظمت هذه الأبيات:
ألقت على الشّاطي مراسيها
سفينة تزهو بمن فيها
تصفّقُ الريح لها فرحةً
ويشمخ الموج بها تيها
طارت بهم شوقاً وشقّت لهم
درب ضياء من مجاريها
وخلفتْ أشرعةً ريحها
تنشرها طوراً وتطويها
و أذعن البحر..فما ترتجي
في اليمِّ فلكٌ أن تباريها
هم فتية عُربٌ سما فرعهم
من مَعرقِ الأصل وشاميها
آمالهم تحملها أنفسٌ
طموحة..سبحان باريها
شحّتْ عليهم أرضهم مغنماً
فالتمسوه من أقاصيها
وفي لظى الغربة أشواقهم
تبعثها الذكرى .. فتذكيها
صدورهم أثقلها همّها
فالتمسوا للهمّ ترفيها
واستقبلتهم (شيراهاما) الهوى
نشوانةً .. رقتّ حواشيها
الحُبّ في أحضانها دافىء
كالماء يجري من سواقيها
يشفي من الأجسام أوصابها
وغلّة الأنفس يرويها
نهارهم من مرح كله
وليلهم أحلى لياليها
ويومهم يحسده أمسه
ويحسد الصبح أماسيها
مجالس بالأنس معمورة
يستظرف النكتة راويها
تستيقظ الأحلام في أكؤس ٍ
أترعه ا بالحب ساقيها
وتعزف الألحان (حورية)
يردد الشاطي أغانيها
وطابتْ الكأس لمن ذاقها
و ذاب من شوق ٍ بها.. فيها
وكل حسناء لها معجب
مولهاً بات يناجيها
وظبية البان وصيادها
بوافر العشب .. يُمنّيها
وعابد الحسن الى (ربّه)
صلى خشوعاً ليس تمويها
يعطي الصبابا خير ما تشتهي
ويبتغي (مرضاته) فيها
ويكره الأحسان من محسنٍ
لغايةٍ في النفس يقضيها
وآخر حار بها معدةً
من هادم أللّذات !! يحميها
لم تُغرِه الكأس وصهبائها
ولم تراوده أمانيها
جزيرة الاحلام يا جنةً
يحارُ فيها الوصف تشبيها
قد وقف الدهّر على بابها
يقتطف الحسن ويعطيها
يسألني خلّي في وصفها
شعراً .. وما كنت لأوفيها
ارى بنات الشعر مزهوةً
تعجب مني إذ أناديها
منذ الصبا عاهدني ثغرها
وعللتني بأمانيها
جاءت على رغمي أو رغمها
وأسلست طوعاً قوافيها
أوفَتْ بما جادتْ وها أنني
من شرفةِ الذكرى أُحيّيها