في أعقاب (الكورونا) النظام الرأسمالي: ما له وما عليه

تواجه الرأسمالية كنظام اقتصادي حــّر، انتقادات واسعة منذ نشوئها في المجتمع الصناعي المتقدم حتى يومنا هذا . كما تواجه وليدتها (العولمة) و النيو ليبرالية، نفس المصير. وقد تعالت أصوات النقاد و نذرهم في هذه الايام مع تفشي وباء جائحة (الكورونا)وهم يتنبأون بأن الوقت قد حان لنظام عالمي جديد تخضع فيه الأنشطة والأنظمة الرأسمالية وحرية السوق المطلقة … لقيود تفرض عليها مراعاة العوامل الإنسانية في أنشطة الاقتصاد التــّوسعي غير المنضبط والعابر للقارات ، ومراعات عوامل اخرى اجتماعية وبيئية و خدماتية في مجال الصحة والدواء ومكافحة الأوبئة والاحتياط للكوارث الطبيعية وتوفير الموارد المالية اللازمة لمواجهة تلك الاحتياجات وغيرها .وذلك بدلا من إنفاق الأموال في شــّن الحروب.

وبالاضافة إلى كل ذلك فهناك الكثير ممن يطالب احداث التغيير في مواقف الدول تجاه تشجيع مؤسسات المجتمع المدني ومشاركتها في القرار بما في ذلك نقابات العمال واصحاب المهن الحرة وجمعيات حقوق الأنسان وجمعيات انصار البيئة وغيرها.

كما تجدر الإشارة ايضا إلى المفاوضات الجماعية بين دول الجنوب والشمال ومعسكر العالم الثالث والعالم المتقدم الذي ما زال يمسك بيده مفاتيح التقدم والتنمية في دول وشعوب العالم الثالث، ثم يبخل على تلك الدول في مجال تنميتها اللهم الا بشروط تعجيزية مضرة باقتصاد تلك الدول ورفاهية شعوبها من مثل ايقاف الدعم الحكومي للمواطنين،وايقاف الدعم لنمو الصناعات المحلية،وتعويم العملة النقدية،وفتح الاسواق للخارج، وتخفيض أو الغاء الرسوم الجمركية،وترشيد الأنفاق الحكومي لبس فقط في مجال الموظفين والرواتب بل وحتى في ميزانية الخدمات العامة وكثير من الشروط الأخرى التي يشترطها البنك الدولي أو الدول الممـّولة أو المانحة للقروض، وترى فيها كثير من الدول تدخلا في سياساتها الداخلية و أضعافا لنمو صناعاتها المحلية تجاه  المنافسة مع الشركات الخارجية.

ولابد من الإشارة ايضا إلى أن الأنظمة الرأسمالية في مسيرتها الحالية تستفيد منها القوى العظمى  ذات الاستعمار العريق على حساب الدول النامية، ولكن يبدو ان هناك يقظة جديدة لدى الدول التي عانت من الاستعمار كثيرا للمطالبة بحقوقها في التعويض العادل من تلك الدول المستعمرة. ومنذ أيام قليلة  أقــّر البرلمان في تونس دراسة اقتراحات بمطالبة فرنسا بالتعويض العادل خلال ثمانين عاما من تاريخ الاستعمار الفرنسي لتونس.

ويبدو أن من طبيعة النظام الرأسمالي أنه يتمتع بالمرونة والقدرة على التلون تلون الحرباء والخروج من باب ثم الدخول من باب اخر لتحقيق نفس الأهداف. فالهجمة الاستعمارية الشرسة وقهر الشعوب واستغلال ثرواتها  سرعان ما تحّولت بعد استنفاذ مبرراتها حينما نالت الشعوب استقلالها بعد كفاح مرير.سرعان ما تحولت ، إلى استعمار اقتصادي فرض هيمنته على مقدرات تلك الشعوب بعد استقلالها فأحكمت سيطرتها على الإقتصاد ومجالات التنمية وفي السياسة  عن طريق التدخل في سياسة الدول المستقلة  كما حدث في مصر وسوريا والعراق وغيرها من دول العالم مثل امريكا اللاتينية ودول افريقيا واسيا، و الإطاحة بالأنظمة التي  لا تذعن لتبعية الدول المستعمرة. وحين تشعر تلك الدول بوجود اخطار محتملة على مصالحها فهي لا تتورع عن استعمال القوة القاهرة والغزو المسلح واثارة الفوضى المدمرة في تلك المجتمعات  بالإضافة إلى سلاح المقاطعة الاقتصادية وتجويع الشعوب..وكل ذلك حاصل اليوم و لا يحتاج إلى اثبات.

ومن الوسائل الأخرى المرنة التي لجأت اليها دول الاستعمار القديم استغلال مجال التنمية والمساعدات الخارجية في اغراق الدول الناهضة بالمستشارين والفنيين من ذوي الرواتب الباهضة فتراهم  يتغلغلون في أجهزة الدول التي تستعين بهم في مجال التكنولوجيا المتقدمة و  مجال التنمية المستدامة ويستـلّـون أسرار تلك الدول في المراكز الحساسة كالأمن وتزويد السلاح والخدمات والصناعة والمجالات الأخرى بما في ذلك ما يتعلق بالتيارات السياسية ومراقبتها ليعرفوا مصادر الضعف والقوة في اجهزة الدول للاستفادة من كل تلك المصادر والمعلومات عند اللزوم.

تحضرني في هذا المجال ملاحظات قيمة أدلت بها شخصية مصرية محترمة ومرموقة. وأعني بذلك الدكتور محمود فوزي المستشار برئاسة الجمهورية المصرية في عهد الرئيس السادات. فقد زرته لتوديعه في أواخر عام 1974 في مكتبه بديوان رئاسة الجمهورية وحدثني بلهجة يبدو عليها التملل من ظاهرة انتشار الخبراء والمستشارين والفنيين الأمريكيين والأجانب في اجهزة مصر الرسمية ولا سيما العسكرية منها، بغرض التطوير والتدريب وتقديم المشورات الفنية الخ..ومن جملة ما شرحه لي قوله بما معناه: ” أن تغلغل الخبراء والمستشارين في اجهزة أي دولة هو الصورة الجديدة للإستعمار الحديث. فقد انتهى عهد الاستعمار عن طريق الاحتلال المباشر للدول . كما اوشك عصر الاستعمار الاقتصادي على الانتهاء، واليوم فهؤلاء من الفنيين والخبراء الأجانب اصبح بأمكانهم الاطلاع على اسرار الدولة والسيطرة على أجهزتها وأنواع التسليح في جيشها وأنشطة المخابرات فيها ومعرفة مواطن القوة والضعف في كل ذلك.” وأضاف :انه نقل وجهة نظره إلى السادات مقترحا فتح المجال للأدمغة المصرية لا سيما المهاجرة منها وتشجيعها على الرجوع إلى مصر بكل الوسائل المغرية لاستلام تلك المناصب،وكذلك الاهتمام بشباب مصر المتعلم وتشجيعهم للتخصص في تلك المجالات.

وعودة إلى الموضوع أقول أن النظام الراسمالي ليس شرا كله. فقد تحققت عن طريقه نهضة الأمم الصناعية وحرية التجارة في العالم  كما استفادت منه الدول الأخرى وأدت المنافسة الحرة إلى تحسين الانتاج و تخفيض اسعار السلع وفتح المجال على مصراعيه للأبداع و الابتكار و بضمان حقوق المخترعين و الافراد وتوثيقها رسميا و حقوق التملك بأنواعها، و مكافئة الفنيين و المبدعين و المخترعين ماديا و معنويا بما تم رصده من جوائز و مكافئات و وسائل الاعلان و الترويج و لو كان كل ذلك على حساب المستهلك واغراءات صرف ما في جيبه على السلع الاستهلاكية و الكمالية.

وبعد انهيار النظام الشيوعي الاشتراكي في الإتحاد السوفيتي لم يتبق غير النظام الراسمالي لسيادة العالم كأمر واقع باستثناء بعض الدول القليلة التي مازالت تتمسك بالنظام الاشتراكي ظاهرا و تدير دفتها بنحو او باتجاه الاستفادة من مميزات النظام الراسمالي باطنا.ومن بينها  العملاق الصيني.وكوريا الشمالية.وبعض الدول الأخرى التي تدور في الفلك يمينا او شمالا.

في عصر الرئيس السادات كانت الاشتراكية في مصر تترنج في اخر أيامها بعد قرار السادات بالإنفتاح على الاستثمارات الرأسمالية و الشركات الأجنبية و تخصيص شركات القطاع العام. و في ذلك احراج لدعاة الاشتراكية و كان موقفه التمسك ظاهريا و كلاميا بالاشتراكية الموروثة من عهد الرئيس جمال عبد الناصر بينما هو يمضي في الطريق الاخر.فجاءت هذه النكتة على لسان المصريين : قالوا أن سيارة الرئيس وقفت عند مفترق الطرق وسأله السائق كيف يدور فأجاب: حرك الإشارة على اليسار لكن توجه بالسيارة  إلى اليمين.

وعودة إلى الموضوع… لعل من المفيد هنا ان نقف برهة وجيزة عند تعريف النظام الرأسمالي و ما له من ميزات و ما عليه من ماخذ: تتعـّدد التعريفات لماهية النظام الرأسمالي و معظمها يتفق على أن الرأسمالية هي نظام اقتصادي تكون فيه رؤؤس الأموال و الأرباح مملوكة لأصحاب الأموال دون غيرهم من العمال الكادحين. وأنها نظام اقتصادي تعود فيه ملكية وسائل الانتاج لأصحاب رأس المال يتم استعمالها بقصد جني الأرباح لصالح من يملكون المال. وأنها نظام اقتصادي يستند إلى حرية السوق لتنمية الثروات الخاصة بالملكية الفردية و المحافظة عليها دون تدخل الدولة اللهم الا في جدود الرقابة و ضمن حدود السوق الحر.

وقد عددوا للنظام الرأسمالي  الحر ايجابيات اضافة إلى ما تم ذكره اهمها :

1- المنافسة الحرة تؤدي إلى جودة الانتاج والابتكار.

2- تطوير القدرات العلمية يدفع بعجلة التطور والتقدم.

3- تشجيع روح المبادرة.

4- ارتفاع الدخل القومي.

وفي مقابل كل ذلك تتعدد الماخذ على النظام الراسمالي الحر ومن بينها:

1- ظهور الطبقية واستغلال العمال بسبب مبدأ الأسعار الحرة التي يعتمد عليها النظام ويسعى فيها نحو اختيار أقل الأجور للفئة العاملة.

2- تركز الثروة في أيدي قليلة من المجتمع.

3- الاهتمام بالماديات وتحقيق الارباح على حساب القيم الانسانية وعدالة توزيع الثروة.

4- حدوث أزمات اقتصادية حادة وتزايد حجم البطالة.

5- تقييد الحكومات والسياسات امام الكيانات الاقتصادية الرأسمالية الضخمة والتأثير على القرار السياسي والتحكم فيه مما يؤدي إلى انحياز السياسة لطبقة بعينها وهو ما ينتج عنه ضعف الخدمات العامة وخصوصا في الدول النامية.وفي الدول المتقدمة يضرب التدخل السياسي مسمارا في نعش الديموقراطية بسبب شراء الأصوات.وتوجيه دفة القرارات السياسية للصالح الخاص بدلا من الصالح العام

والخلاصة : فإذا كان النظام العالمي سوف يخضع في أعقاب جائحة (الكورونا) للتغيير فأولى أن يطال التغيير مسيرة النظام الرأسمالي لتحقيق التوازن بين حرية السوق ومصلحة المجتمع والايدي العاملة طبقا للقيم الإنسانية والأخلاقية بعيدا عن نزعة التسلط او استغلال الدول الضعيفة واسواقها ومواردها الطبيعية. و بالاختصار تلافي العيوب والسلبيات في النظام الرأسمالي القائم.

وعسى أن لا يخيب أمل الشعوب في العدل والأنصاف وأن لا تصبح النتائج مخيبة للامال كما قال الشاعر :

( لقد مــريتكم لو أن درّتكم  * يوما يجىء بها .. مسحي وأبساسي.)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى