الدعوة الإسلامية والدعوة القومية : لقاء أم فراق

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أحييكم جميعا في هذه الأمسية التي يستضيفنا فيها الأخ الزميل الدكتور عبد الله الحويحي في مجلسه العامر في جو من الألفة والمحبة يجعلني استذكر بعض ابيات من شعري في التالف وحب الوطن افتتح بها حديثي في موضوع هذه الأمسية:

امنت بالحبّ الكبير . . ومن يقرق فهو كافــر

امنت بالحب الذي يذكي العزائم والمشاعر

ويلــّقـن الأجيال وحدتها لكي تقوى الأواصر

فالفرد للمجموع والمجموع للأفراد ناصر

والكلّ تحت لوائك الخفـّاق يا بحرين سائر

ثم أبدأ بالقول أنّ

استعراض بداية نشوء الحركات والتيارات الفكرية والسياسية الاسلامية والقومية لها علاقة تاريخية بحركات التنوير في العالم الغربي وفي الاقطار العربية بعد ذالك.

عصر التنوير في العالم الغربي بدأ بعدة قرون قبل عصر التنوير في العالم العربي. وتاريخه معروف ومتداول واهم منجزاته فصل الدين عن السياسة وتحجيم دور الكنيسة فيما يتعلق بالسياسة وادارة شئون الحكم فيما سمي بنظام علمانية الدولة.

تأثرت التيارات الاسلامية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بالافكار الاصلاحية التنويرية التي جاء بها مصلحون اطلعوا على مسيرة امم الغرب في التحديث والتنوير مثل الشيخ جمال الدين الافغاني، والشيخ محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي، ومفكرون مثل قاسم امين وغيرهم. ممن تأثروا بتلك الأفكار.

قيل عن دعوات هؤلاء الرواد الاصلاحية تحت المظلة الاسلامية في مصر والبلدان الاسلامية عموما، انها جاءت على اثر الحملة الفرنسية البونابرتية لمصر. وقيل ايضا انها جاءت على اثر نهاية الخلافة العثمانية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى:1914- 1918 ومحاولة توحيد الأمة الاسلامية تحت راية الخلافة الاسلامية من جديد.

ثم أن المشاعر الوطنية في مصر والأقطار العربية لدى الجماهير الساعية للتخلص من الاستعمار في بلدانها صار لها الزخم الأوفر بدوافع وطنية اكثر منها اسلامية او قومية.

وبعد أن تم لمصر التفاوض لعقد معاهدة مع بريطانيا لانهاء الاحتلال في عام 1936 خلا الجو السياسي لحركات لها طابع عقائدي فنشأت حركة جماعة الأخوان المسلمين في عام 1928 كبديل اسلامي لنظام الحكم وذالك على يد الشيخ حسن البنا. وتولت جماعة الأخوان المسلمين نشر افكارها على اوسع نطاق في مصر وفي خارج مصر ثم في مختلف اقطار العالم الاسلامي كما اسست لها مراكز للدعوة في كثير من بلاد الغرب والشرق. كما هو معروف. وبهذا اصبحت جماعة الأخوان المسلمين اهم حركات التيارات الاسلامية الداعية الى اقامة حكومات عربية واسلامية على اساس الشرع الاسلامي وتعاليم الدين الاسلامي من زاوية رؤيتها الخاصة واجتهادات قياداتها. وأن خالف رؤيتها اخرون من التيارات القومية والاشتراكية والوطنية وغيرهم من اصحاب الانتماءات الحزبية والمذاهب من العقائد الأخرى في أرجاء الوطن العربي بالاضافة الى معارضة السلطات الحاكمة لتلك التوجهات.

ثم نأتي الى بداية نشوء الحركات القومية الداعية الى وحدة الأمة العربية خاصة – في مقابل الدعوة لحكم اسلامي يتجاوز الحدود الجغرافية العربية الى بقية اقطار العالم الاسلامي-

لا اعتقد بخطأ من يرجع نمو وانتشار الشعور القومي . الى الحركات القومية التي بدأت في المجتمع الغربي قبل زمن، ثم انتعشت على يد الفاشية القومية في المايا على يد قائدها ادولف هتلر في الثلاثينات والاربعينات من القرن الماضي. فقد عم صداها اقطار العروبة ونشأت حركات تشيد بأمجاد امة العرب وأناشيد حماسية في افواه طلاب المدارس والجماهيرالعربية

وعمد ملك العراق غازي الى تعميم نظام الفتوة الى غير ذالك.

. وقبل ذالك ادت ممارسات زعيم تركيا اتاتورك – مع دول عربية مثل سوريا ولبنان الى نشوء تيارات قومية عربية مناهضة. استفادت من اعلان شريف مكة الحسين ابن علي بأطلاق رصاصة الثورة العربية الكبرى. خلال الحرب العالمية الأولى في يوليو 1916

أما حزب البعث العربي الاشتراكي فقد تأسس في سوريا بتاريخ 7 أبريل 1947 على يد منظر الحزب السيد ميشيل عفلق وصلاح البيطار وزكي الارسوزي.

وكما أن جماعة الأخوان المسلمين نشأت في مصر على خلفية اسلامية كما تقدم – فقد نشأ حزب البعث كذالك على خلفية عربية قومية في سوريا التي احتضن احرارها فكرة الوحدة العربية قبل ذالك. وشعار حزب البعث (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة –وحدة –حرية اشتراكية ) كان شعارا يبلور طموحات الشعب العربي لتوحيد امة العرب في سوريا وفي مشاعر الجماهير العربية في الوطن العربي الكبير. ولم يكن انتشار حزب البعث بحجم الانتشار الواسع للاخوان المسلمين، ولكنه انتشر بما يكفي في الوطن العربي. واستولى على الحكم في بلدين عربيين على الأقل هما سوريا والعراق.

وموضوع هذه الأمسية هو أين يختلفان وأين يتفقان.

وقبل ذالك أود أن اشير الى أن كلا الحركتين لم ينجحا في تكوين نظام الحكم على اساس العقيدة الحزبية لكليهما بعد ان اتيحت لكل منهما فرصة العمر في استلام السلطة سواء في مصر بالنسية للاخوان او في سوريا المصدر او في العراق لانشغال

كليهما – كما تبين فيما بعد – في ترسيخ سلطة الحزب وملاحقة أو تصفية المعارضين. دون الحاجة للتطرق لذكر الاسباب الاخرى.

وفي مجال ملء الفراغ السياسي في العالم العربي اليوم رايت من المفيد للمستقبل التعرف على خصائص الحزبين للعبرة والتاريخ ولبناء فكر سياسي عربي جديد يستفيد من التجربتين الاسلامية والعروبية ويتجاوزهما الى ما هو افضل وانسب واكثر واقعية للعصر المعاش.

أين يفترقان وأين يتفقان

لنبدأ اولا من شعارات حزب البعث العربي وجماعة الأخوان المسلمين:

شعار حزب البعث هو (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة / وحدة-حرية اشتراكية) 1-

وحدة البعث تشمل العرب جميعا مسلمين او غير مسلمين – وموقف غامض من الوحدة مع المسلمين من غير العرب.

في مقابل دعوة الأخوان : وحدة اسلامية أولا تشمل المسلمين عربا او غير عرب. وموقف غامض بالنسبة لغير المسلمين ولشعار وحدة الأمة العربية اولا دون الاسلامية.

2- الحريات العامة في مفهوم البعث تستثني من يسعون لتقويض النظام او انتقاد مبادي الحزب الواحد وقادته.

في مقابل مفهوم الحرية عند الأخوان وخلاصتها الحرية المحكومة بالشرع الاسلامي والتصدي لمن يعارض حكومة الشرع او التنديد بالقيادة الاخوانية، او محاولة تقويضها.

3- مفهوم البعث في الاشتراكية الاقتصادية يشمل تأميم المرافق العامة مع التعويض والاعتراف بالملكية الفردية فيما عدا ذالك.

مفهوم الاشتراكية الاقتصادية عند الأخوان اشتراكية اسلامية مستمدة من الشرع الاسلامي . وأصدرت التيارات الاسلامية مقالات وكتب تتحدث عن (الاشتراكية في الاسلام) وفي معظمها اشادة بالشعار الذي نادى به الصحابي أبو ذر الغفاري (المال مال المسلمين مقابل المال مال الله) مع حرية التملك للافراد وانشاء مؤسسات تمويلية واستثمارية غير ربوية. مع عدم تقديم دستور متكامل لحكومة اسلامية عصرية يتضمن نصوصا واضحة لحل اشكالات الحكومة العصرية المعقدة بالنسبة للاقتصاد والسياسة والمواثيق الدولية والحريات العامة وحقوق المواطنة للمسلم وغير المسلمين والأقليات الدينية والقومية التي تتمتع بالمواطنة المتساويه في مجتمعات العصر الحاضر. ولعل السبب فيما أرى – أن مثل هذا العمل يتطلب فتاوى شرعية و اجتهادات من علماء الشريعة في مجال النص والحديث والقياس والاجتهاد .. وهي فتاوى اختلف فيها علماء المسلمين على مذاهبهم وما زالوا مختلفين على قاعدة تغير الأحكام بتغير الأزمان وقواعد عامة غير محددة مثل المصالح المرسلة وسد الذرائع وغير ذلك من القواعد الشرعية والأحكام التي يختلف في تقدير الزاميتها للجميع، علماء المسلمين. ا

هذا الموجز لمواقف الطرفين قد يكون مخلا بسبب عدم الدخول في التفاصيل اختصارا للوقت

ولكنه يبدي في ظاهره تعارضا بين ما هو اخواني وما هو بعثي. بعضه جوهري وبعضه شكلي نسبيا. أما المتتبع لأدبيات وأقوال وكتابات وخطابات كل من الطرفين فسوف يجد لحسن الحظ مساحة وارضية مشتركة للتلاقي ولو في نصف الطريق. ومن الأمثلة على ذلك ما يلي:

وقبل الولوج في تلك الأمثلة أود الاشارة الى انني فيما سأورده سوف اقف في سرد الأمثلة عند عتبة اوائل الخمسينات من القرن الماضي حيث كان الصراع او الحوار او المكاشفات بين التيار الاسلامي والقومي فكريا وثقافيا على الوجه الأعم. وكلنا نعلم أن الفترة الممتدة بعد الخمسينات

كانت مجالا لصراع حميم لكل من الاخوان والبعث لاستلام السلطة سواء عن طريق انقلابات عسكرية أو اغتيالات او صناديق الاقتراع. وهي فترة قاسية حديثها يطول وليست من موضوع هذه الأمسية.

أولا: موقف حزب البعث من رسالة الأسلام ومن المسلمين

1- يروي المفكر الاسلامي محمد عمارة في كتابه عن ميشيل عفلق قوله:

(وعندما اقول عروبة، تعرفون بأنني اقول : الاسلام ايضا لا بل الاسلام اولا. العروبة وجدت قبل الاسلام ولكنه هو الذي انضج عروبتنا وهو الذي اوصلها الى الكمال، وهو الذي اوصلها الى العظمة والى الخلود. هو الذي جعل من القبائل العربية أمة عربية عظيمة، أمة حضارية. فالاسلام كان وهو الان وسيبقى. روح العروبة وسيبقى هو قيمها الانسانية والأخلاقية والاجتماعية. هذا هو حب الشعب، هذه هي الحقيقة.)

2- قبل ذلك الخطاب تكلم منظر حزب البعث السيد ميشيل عفلق – في ذكرى الرسول الأعظم في خطاب طويل بمناسبة ذكرى الرسول الأعظم القاه على مدرج الجامعة السورية في 5 نيسان 1943

تقتطف منه ما يخص موضوعنا في هذه الفقرات والعبارات والكلمات حيث قال:

* وما دام الارتباط وثيقا بين العروبة والاسلام، وما دمنا نرى في العروبة جسما روحه الاسلام فلا مجال اذن للخوف من أن يشتط العرب في قوميتهم

** ومن قوله أيضا: وسوف يعرف المسيحيون العرب عندما تستيقظ فيهم قوميتهم يقظتها التامة ويسترجعون طبعهم الاصيل، أن الاسلام هو لهم ثقافة قومية يجب أن يتشبعوا بها حتى يفهموها ويحبوها فيحرصوا على الاسلام حرصهم على

 أثمن شيء في عروبتهم. وإذا كان الواقع لا يزال بعيدا عن هذه الأمنية، فأن على الجيل الجديد من المسيحيين العرب مهمة تحقيقها بجرأة وتجرد، مضحين في سبيل ذلك بالكبرياء والمنافع أذ لا شيء يعدل العروبة وشرف الانتساب اليها.

*** ومثل ما تقدم ما ذهب اليه الدكتور الرزاز غلى أساس أن الاسلام لم يكن دينا فقط، بل كان تاريخا وحضارة وحياة عقلية، وأن الاسلام ادى الى توحيد العرب جميعا مسلمين ومسيحيين في إطار فكري معيشي واحد.

**** وبعد فأن هناك نماذج كثيرة من الاقوال المعبرة عن موقف حزب البعث من القضية الاسلامية. اكتفيت بإيراد بعض منها بما يؤدي الى الاستنتاج بوجود ارضية مشتركة في أدبيات حزب البعث تجاه الدعوة الاسلامية. فيما عدا الدعوة لإقامة حكومة اسلامية، والسبب معروف لا يحتاج الى توضيح.

ثانيا: موقف الأخوان من القومية العربية

بالاستناد الى مصادر المعلومات حول موقف الأخوان من قضايا الأمة العربية على لسان المرشد الأكبر الشيخ حسن البنا، يمكن تلخيصه في عدد من الأقوال المنسوبة اليه فيما يلي:

1- الأخوان يحبون وطنهم ويحرصون على وحدته القومية بهذا الاعتبار لا يجدون غضاضة على اي انسان يخلص لبلده وأن يفنى في سبيل قومه وأن يتمنى لوطنه كل مجد وكل عزة وفخار.

2- فالقومية بالمعاني السابقة لا تتعارض مع الاسلام بل حث عليها ولذا فالأخوان قوميون بالمعاني السابقة.

3- البديهيات التي لا تقبل الجدل عند الأخوان” ان العرب امة واحدة”.. وان هذا التعبير يساوي عند الاخوان المسلمين في احقيته و وضوحه واستقراره في النفوس و الأذهان قول القائلين: “السماء فوقنا و الأرض تحتنا”.. وان العرب من خليج فارس الى المحيط الاطلسي ليتحدوا بوحدتهم أمة متحدة في القديم والحديث.

4- وقد اصطلحت على تكوين الوحدة العربية وتدعيمها كل العوامل الروحية واللغوية والجغرافية والتاريخية والمصلحية، وليست تعوز هذه القضيه الادلة والبراهين، ولكن يعوزها ثبات المؤمنين وعدالة المنصفين. . كما تقول مذكرة (الأخوان المسلمون) الى لجنة التحضيرية لمؤتمر الوحدة العربية في غرة شوال المبارك 1344هـ من سبتمبر 1944م.

5- و قال عنها الإمام”البنا”-رحمه الله- في رسالة (دعوتنا في طور جديد):” والعروبة لها في دعواتنا مكانها البارز وحظها الوافر، فالعرب هم أمة الاسلام الأولى، وشعبه المختار، ولن ينهض الإسلام بغير اجتماع كلمة الشعوب العربية ونهضتها، وإن شبر أرض في وطن عربي نعتبره من صميم أرضنا ومن لباب وطننا”.

6- ويضيف الإمام: البنا”: ومن أروع المعاني في هذه السبيل ما حدد به الرسول الله-صلى الله عليه وسلم- معنى العروبة، إذ فسرها بأنها اللسان والإسلام، وذلك تعلم أن هذه الشعوب الممتدة من خليج فارس إلى طنجة ومراكش على المحيط الاطلسي كلها عربية تجمعها العقيدة، ويوحد بينها اللسان، ونحن نعتقد أننا حين نعمل للعروبة نعمل للإسلام ولخير العالم كله. .

7-والإخوان يرون أن “العرب .. هم أمة الاسلام الأولى وشعبه المتخير ولن ينهض الإسلام بغير اجتماع كلمة الشعوب العربية ونهضتها، فهذه الحدود الجغرافية والتقسيمات السياسية لا تمزق فينا أبداً معنى الوحدة العربية والإسلامية (اذا ذل العرب ذل الإسلام) .. إن الإسلام نشأ عربياً ووصل إلى الأمم عن طريق العرب وجاء العرب وجاء كتابه بلسان عربي مبين وتوحدت الأمم باسمه”.

8- ويذكر الإمام “البنا” عام 1946م أن الإخوان منذ تأسيسهم رأوا أن الدنيا ستصير إلى التكتل، وأن عصر الوحدات الصغيرة والدويلات المتناثرة قد زال أو أوشك، وأنهم رأوا أنه ليست هناك جامعة أقوى ولا أقرب من الجامعة التي تجمع العربي بالعربي، وأشار في مجلة (الإخوان المسلمون) تحت عنوان” آمالنا في الجامعة العربية” إلى ان هناك عوامل عدة تؤدي إلى الوحدة الكاملة، على العرب أن يأخذوها في حسبانهم.

9- وكانت مناصرة الإخوان في المنطقة العربية للجامعة العربية ممارسة واقعية لانتمائهم العروبي، وعملاً لإحياء الوحدة العربية، إلا أنهم كانوا يرون تخليصها من كل ما يحيط بها من عوامل الضعف والتخلخل .. فالإمام البنا” يقول” .. والجامعة العربية في وضعها الصحيح يجعلها جامعة حقيقة تضم كل عربي على وجه الارض في المشرق والمغرب، وتستطيع أن تقول كلمتها، فيحترم تقويتها وتدعيمها، ومن حقنا أن يعترف الناس بها وأن يقدروها قدرها، وأن يؤمنوا بأنها حين تقوى وتعتز ستكون من أقوى دعائم السلام العالمي”.

**

وبعد – من هذا الاستعراض السريع لمواقف الكتلتين من الفكرة القومية والثقافة الاسلامية نستنتج – من موقف المحايد – وجود أرضية مشتركة واستعداد تنظيري للتفاعل الايجابي بينهما. وفي مجال السعي لتوحيد الأمة العربية ونشر الثقافة الاسلامية بترسيخ الايمان في النفوس وثقافة التسامح والأخلاق وعمل الصالحات يتفق عليها الجمعان كما تقدم.

وفي اعتقادي انه لو قـدّر للجماهير العربية الغفيرة التي التفت حول تلكين الكتلتين بامال طوال عراض في اصلاح احوالها وتنمية وعيها العروبي والاسلامي ثقافيا واجتماعيا وتنمية مواردها الاقتصادية وتربيه اجيالها على قيم العدالة والديموقراطية وحرية الرأي وحقوق الأنسان والمواطن .. لما وصلنا الى الوضع المأساوي الذي نعيشه اليوم.

في احدى المقابلات مع الدكتور المفكر علي فخرو الذي انفصل عن حزب البعث وعلل اسباب الانفصال بسبب تنكر حزب البعث للوحدة بين مصر و سوريا في عهد جمال عبد الناصر، يقول ما معناه: ان لحزب البعث العربي تأييدا جماهيريا يضم أفضل عناصر الأمة العربية من مفكرين ومناضلين وأساتذة وطلاب ومهنيين .. ولو ظل موجها ولم يدخل في الاعيب السياسة الحزبية لكان له اليوم شأن عظيم. وانا اضيف ان حركة الأخوان المسلمين حظيت كما حظي حزب البعث من تأييد شعبي فيما تضمنه مشروع الأخوان التثقيفي والاجتماعي في انشاء المدارس والمستشفيات والاحسان الى المحتاجين وما شابه .. لولا أن الصراع الحزبي للوصول الى الحكم قد افسد عليه موقع التأثير على الجماهير وقيادتها نحو الوعي والثقافة والاصلاح.

ولكن الأمور والأحداث المريعة جرت على غير ما كان يأمل المصلحون والتقدميون والداعون الى وحدة الصف وسد الثغرات في الجسم العربي التي استغلها المستعمرون والطامعون والمتآمرون.

يبدو لي بعد كل ما جرى من احداث منذ الستينات الى يومنا هذا. أن تلك المبادئ والأدبيات البراقة تهاوت او احترقت تحت كراسي الحكم والسلطة وشهوة النفوذ والتفرد بالقرارات المصيرية للأمة .. بالإضافة الى ما اشتهرت به تلك الفترة من عنف وتصفية واستبعاد للخصوم.

نشرت صحيفة الأيام مؤخرا في عدد 23 فبراير 2020 مقالا للدكتور المفكر محمد جابر الأنصاري يصف فيه احوال مجتمعاتنا خلال التسعينات حيث يقول:

(يحار المرء وهو ينظر في لائحة فواتير التاريخ المؤجلة امام العرب. فواتير الاصلاح الديني واستفحال العوائق المضادة لإنجازه بالارتداد الى اصوليات الغلو التي ادانها الاسلام الحقيقي قرانا وسلوكا وتاريخا. * فاتورة الاصلاح السياسي البطيء والمجمد في صيغ التسويف الدي يأتي ولا يأتي الا في قليل من بلاد العرب. ** تعسر وتعثر ولادة المجتمع المدني ومؤسساته تحت وطأة الطائفية والقبلية وتقاليدهما البالية واستباحته بطغيان الأحزاب التي لم تأخذ من التحديث الا اسمه. أما في حقيقتها فهي الطائفة والقبيلة التي تحزبت سياسيا واجتماعيا.

*** هذه الفواتير المؤجلة نسمع صدى اختناقها كل ساعة في التفجيرات المتزايدة في المدن العربية التاريخية وفي صراع الأخوة الأعداء وتقدم جيوش الأعداء الذين يدركون مغزى التاريخ ويعملون على وقف مسيرته المنطقية في الارض العربية – انتهى)

ذلك حال التسعينات وليت شعري ماذا ترى الأنصاري سيقول عن حال يومنا وغدنا؟

**

ذكر الأنصاري فيما ذكر عن الدولة المدنية واشراطها، واضيف أن اغلب الأنظمة في العالم اليوم تخلت – بعد صراع مرير – عن الأحزاب العقائدية الايدولوجية المنغلقة على نفسها. واستعاضت عنها بأنظمة مدنية ديموقراطية علمانية حرة تفتح نوافذها على جميع المواطنين .. ثم استراحت وتقدمت في شتى الميادين. تحت شعار حرية الفكر والرأي الاخر ومصلحة المواطن دون تمييز في الجنس واللغة والدين والقوميات.

ولا يعني كل ذلك أن الشعارات الدينية والعقائدية والايدولوجية والأحزاب التي تروج لقيمها قد اختفت من عالم الغرب. . فهي ما تزال قائمة مع التأقلم تحت متطلبات الحكم الديموقراطي العلماني. فهي حينما يقدر لها النجاح في الانتخابات العامة مثلا لن يكون بإمكانها هدم النظم والأوضاع القائمة لتنظيم الدولة والمجتمع واقامتها من جديد على قواعد واسس ومبادئ الحزب الحاكم. ولا ايجاد سلطة حكم تتميز ارادته عن ارادة المحكومين في مجموع مكوناتهم المتعددة.

وفي بلدان مثل اوروبا وكندا وامريكا واستراليا وجد المبعدون والمضطهدون والملاحقون من دولهم بسبب العقيدة أو معارضة انظمة الحكم في بلدانهم كما وجد المدافعون عن حقوق الأنسان واللاجئون بسبب الحروب المدمرة وغيرهم .. كل اؤلائك وجدوا في اللجوء الى تلك الدول العلمانية المجال الامن لعيشهم افرادا وعائلات وجماعات يزاولون انشطتهم الثقافية والدينية والاجتماعية بحرية وأمان. واخر الأخبار عن اليابان مثلا انها اعترفت بحقوق الجالية الاسلامية وهيئت لها دور العبادة في اماكن ثابتة أو متنقلة.

أما بلداننا العربية فقد اكتفت بتصدير المهاجرين والمهجرين فيما ترتفع بيننا اصوات الجماعات السلفية تحذر من الأنظمة العلمانية دون ان تعرف حقيقتها وتتهمها بانها لا دينية تحارب الاسلام. ثم أدخل خطباؤها ودعاتها في قلوب الجمهور شؤم هذه الكلمة ومقتها على غير دراية.

ولتلك الاسباب وجد دعاة التجديد والاصلاح الحل في استبدال كلمة العلمانية بعبارة اخرى مقبولة وهي (الدولة المدنية) بالمفهوم المناسب لتقاليدنا العربية والاسلامية ووضع ضوابط أخلاقية لمفهوم الحرية المطلقة في الغرب.

**

رب قائل يقول ذلك شأن الأمس الماضي فما هو شأن المستقبل .. أو كما قال الشاعر

(فدع عنك رسما عيث في عرصاته ** ولكن حديثا ما حديث الرواحل)

وأقول ان رواحيلنا وقوافلنا اصبحت تسير في فراغ فكري على غير هدى يغمرها اليأس ويلفها الضياع ويؤرقها التصالح مع النفس ومع المجتمع ورؤية المستقبل.

ثم اعود الى شأن موضوع هذه الكلمة فأقول: أن الدعوة القومية العروبية والدعوة الاسلامية الروحية الاصلاحية متلازمتان. ويا حبذا لو أن دعاتهما حاولا الاستفادة من تجارب الماضي وأخطائه لتصحيح المسار وتركيز الجهود على تنمية الوعي العربي والاسلامي وتربية الجيل الناشئ على التمسك بأواصر الوحدة العربية والخلق الاسلامي في التسامح والعدل والمساواة وحب الخير والاصلاح. واذا صلح الفرد صلح المجموع.

وأضيف أيضا: أن بإمكان الكتلتين الاسلامية والعربية تأجيل الصراع على السلطة مؤقتا – والدعوة لتكوين كتلة تاريخية) على اساس المبادئ المشتركة تنضّم اليها القوى والتيارات الأخرى الفاعلة في المجتمع – للتفرغ لقضايا الوطن العربي الاسلامي الكبرى. ومن أهمها التشرذم العربي والتكفيري الاسلامي – والهجمة الاستعمارية والصهيونية –وتصحيح مسار الجماهير الغاضبة واليأس القاتل في حاضر الأمة ومستقبلها- وتوجيه دفة الاقتصاد الى الانتاج والترشيد – ورصد الموازنات المالية لمعاهد الأبحاث والعلوم والتدريب الفني في مقابل اختزان السلاح فيما لا فائدة ترجى منه .. الى غير ذلك من الميادين التي ادت الى مساوئ الجهل والتخلف.

وختاما اقول بثقة الأيمان بنصر الله على الذين (طغوا في البلاد فاكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط العذاب .. أن ربك لبالمرصاد) وقد أمرنا جل شأنه بالعمل والصبر. وأن لا نيأس من روح الله ونصره …. :أن اليأس المخيم وخيبة الامال وتكالب الأمم علينا ليس قدرا محتوما. . اذا صلحت النفوس واستقر العدل وصفت النيات وتنورت العقول وارتفعت غشاوة الجهل. وصلحت الأعمال .. والله لا يضيع اجر من أحسن عملا. وقال جل شأنه سبحانه:

أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

*

(ألقيت في مجلس د. عبدالله الحويحي في 25 مارس 2020)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى