حكومة الخلافة والمشروع الاسلامي .. حلم وعقبات

جمعتني الصدفة في أوائل الخمسينيات الماضية، بداعية مشهور من الأخوان المسلمين، وهو الشيخ سعيد رمضان في فندق «سوق الغرب» في لبنان، الذي كنت معتاداً على النزول فيه، وكان موجوداً في ردهة الجلوس في الفندق يسلّي بنتًا صغيرًة له بإسماعها اسطوانة تغّني فيها الممثلة المشهورة «دوريس داي»، أغنية اسمها «كي-سرا- سرا»، وكلما انتهت الأغنية وضع نقوداً أخرى للاستماع إليها من جديد

واستمـّر على هذا المنوال طيلة إقامته في الفندق. وكان استفساري منه عن سبب ولعه بهذه الأغنية سبباً في تعّرفي عليه. وقد عّرف نفسه لي بأنه داعية من الأخوان المسلمين ولم يذكر شيئاً عن مركزه أو نشاطه، لكني علمت فيما بعد أنه واحد من الرعيل الأول من قيادات الأخوان المسلمين، وأنه متزوٌج من ابنة الإمام حسن البنا وكان السكرتير الشخصي له، وأنه محكوم عليه بالإعدام لاتهامه بالاشتراك في محاولة اغتيال جمال عبد الناصر. ثم أخذت معه بعد ذلك بأطراف الأحاديث العامة حتى عّن لي أن أسأله عن دعوة الأخوان المسلمين وهل أّن لديهم مشروعاً متكامًلا لإنشاء دولة وحكومة لتطبيق الشرع الإسلامي. وكنت أكّلمه باحتراز متحّرجاً من صغر سني في مناقشة قضايا من هذا الوزن، لكن بساطته وسماحته -والحق يقال- شجعاني على مناقشة أفكار الأخوان المسلمين معه، لاسيما موقفهم من القومية -العربية والوحدة العربية.

وكنت آنذاك متشبعاً بأفكار مجلة «الأنصار» القاهرية (1939- 1944) تحت شعار «الفكرة العربية والثقافة الإسلامية». وقد أجابني أن مشروعنا الإسلامي لم يكتمل بعد، وتطبيقه عملياً عسيٌر جداً، وأوضاع المسلمين اليوم في عهد اشتراكية عبد الناصر وارتفاع راية القومية العربية قد لا تشّجع قيام مثل هذا المشروع. ثم أضاف ما يفيد بأن الأخوان المسلمين في مباحثاتهم مع عبد الناصر، اعترفوا بهذا الواقع، واكتفوا بأن تتعهد لهم الحكومة بالتطبيق الجزئي المرحلي ولو على مدى خمسين عاماً، ولكنه رفض ذلك وانفضّ الاجتماع على خلاف. كما أذكر من كلامه أيضاً أن نظم الحكم في الإسلام تاريخياً، تختلف ظروفها اختلافاً جوهرياً عن نظم هذا العصر وتطّورها، وأن الموجود لدينا اليوم من الكتاب والسنة هو مجرد إطارات عامة غير تفصيلية ولا مقّننة (آوتلاينز) -على حد تعبيره- لحياة الإنسان والمجتمع، وعلينا أن نجتهد في وضع تشريعات وقوانين تفصيلية ضمن تلك الأطر العامة، وألا نخرج عنها. وكان هذا اللقاء معه هو الأول والأخير.

لقد مر على ذلك الحديث مع الداعية الإسلامي سعيد رمضان حوالي ستين عاماً، ومايزال المشروع الإسلامي المتكامل – في اعتقادي- غير واضح المعالم أو محّدد القسمات… رغم ما يبذل في سبيل ذلك من جهد. وكتب رئيس تحرير مجلة «العربي» محمد الرميحي في افتتاحيتها «حديث الشهر» (العدد 461 -أبريل 1997) بعنوان «مستقبل حركات الإسلام السياسي: غموض في الرؤية وقصور في فهم شكل الدولة»، ونسبت للكاتب الفرنسي أوليفر روي في كتابه بعنوان «فشل الإسلام السياسي» قوله مشيراً إلى محاولة الحركات الإسلامية السياسية أن تقّدم خطاباً جديداً يهدف الى بناء دولة مختلفة لم تعرف في السابق ما يلي:

1- معضلة هذا الخطاب كما يراها المؤلف، ليست في محاولة التجديد برفض القائم، ولكن في عدم وجود تصور محّدد واضح وعقلاني ومقبول أيضاً للمؤسسات السياسية التي تزمع إنشاءها لإدارة هذه الدولة».

2- وفي موضع آخر ورد ما يلي: «.. ويبقى السؤال كيف يمكن إقامة المجتمع الإسلامي؟ هناك فوارق في الاجتهادات بين المعتدلين والجذريين خلال تاريخ الحركات الإسلامية. كلهم متفقون على أهمية الوصول إلى السلطة، ولكن المعتدلين متحمسون لأسلمة المجتمع من أسفل إلى أعلى، كالدعوة، وإنشاء المؤسسات والحركات المدنية في الوقت الذي يتم فيه الضغط على القيادات الحاكمة من خلال التحالفات السياسية، وكذلك الاهتمام بالشريعة في إصدار القوانين. وفي مقال من مراسل «الحياة» في طهران غسان جّدو (الحياة، العدد 12497 18 مايو 1997) هذا الكلام المنسوب إلى حجة الإسلام محمد ري شهري، في برنامج تلفزيوني في إطار حملة الانتخابات الرئاسية: «وعندما ُسئل عن فهمه وتصوره للإقتصاد الإسلامي، تحّدث ري شهري بجرأة وقال: بعد الثورة وخلال مراحل مختلفة لم نقّدم نموذجاً للاقتصاد الإسلامي».

وأّكد أن كل ما ُطّبق حتى الآن هو عبارة عن برامج نسخت عن الاقتصاد الغربي، ولم يجد حرجاً في القول إنه لا يملك رؤية متكاملة لما ينبغي أن يكون عليه الاقتصاد الإسلامي. ورأى أن الحّل يكمن في أن يجتمع رجال الدين وخبراء الاقتصاد لتحقيق الغرض المطلوب». ويضيف: «اعتبر ري شهري أن الركيزة الأساسية لتغيير الأوضاع نحو الأفضل تكمن في إصلاح ثقافي شامل، ينعكس على المجالات الاقتصادية والسياسية وغيرها». وأقول: لعل فيما أوردته من حديث ما يؤيد ما ذهبت إليه في هذا المقال. ثانياً: لا يخفى على أحد أن الدول الديمقراطية المتقدمة قد أخذت – دون فصد – من المقاصد الإسلامية الشيء الكثير، في مجال الرعاية الإنسانية والمجال السلوكي الأخلاقي والاجتماعي والتعاوني، وإيواء الفقراء والمعوزين واللاجئين وانتشار الجمعيات والمؤسسات الخيرية وحرية الأديان واحترام حقوق الغير والمواطنين على سواء؛ والتطوع لمساعدة المتضررين من الحوادث في جميع بلدان العالم.

وكل ذلك من زمن بعيد أفصح عنه دعاة مشهورون من شيوخ الإسلام مثل الإمام محمد عبده والشيخ جمال الدين الأفغاني، ورفاعة الطهطاوي، حين رجع إلى مصر وقال عبارته المشهورة «وجدت في الغرب إسلاماً بلا مسلمين، وفي الشرق مسلمين بلا إسلام». ويكفينا اليوم أن تكون دول أوروبا وأميركا هي الملجأ الآمن للمسلمين المشردين عن أوطانهم، وأن تلك الدول تؤويهم وتصرف عليهم وهم فيها يسرحون ويمرحون. وقد أقام النظام العالمي في هذا العصر مباشرًة أو من خلال منظمة الأمم المتحدة، رقابًة على الحكومات التي تضطهد مواطنيها أو تعّذبهم أو تتجّنى على حقوق الإنسان والمرأة والطفل في معاملتها لهم. وأنشئت محاكم دولية ومنظمات للإغاثة والتعليم والحفاظ على البيئة والتدريب على المهارات الفردية والجماعية في شتى الميادين؛ والسهر على حفظ السلام العالمي. وكل ما ذكرت وما لم يذكر – فيما أظن- يأتي في مقاصد الشريعة الإسلامية السمحاء والعمل الصالح. أما عن الدول التي لا تأخذ بتلك المبادئ أو تتهّرب منها لمصلحة خاصة رغم توقيعها على المواثيق الدولية الملزمة، أو تأخذ منها بعضاً وتترك ما سواه، فلا شأن لنا بها في موضوع هذا الحديث. (يتبع)

صحيفة الوسط

العدد: 4455

تاريخ: 18 نوفمبر 2014

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى