خواطر من الفردوس المفقود

جاءت زيارتي الأولى للأندلس في شهر اوغسطس من عام 1967في اعقاب شهر ((النكسة)) كما اخترنا تسميتها. وكانت مفاجأة الهزيمة ومرارتها وحرارة الصيف حافزاً ملحاً تحدو بي رغبة لزيارة الأندلس تذكراً للماضي الجميل ونسياناً للواقع المؤلم.

وقديماً شد الرحّالة والشعراء من أمثال البحتري وسواهم، رحالهم تسلّيا عن الهموم ،حيث يقول البحتري في سينيتّه المشهورة:

(حضـــرت رحلــــي الهمــــوم  *  فوجهتُ الى (أبيض المدائن)عنسي

أتسلّــى عــن الحظـــوظ وآسـى  *  لمحـــلَّ مـــــن آل ساســـان، درسِ

ذكـــّرتنيهــم الخطــوب التــّوالى *  ولقـــد تذكــر الخطــوب، وتــنسي)

 

كانت زيارتي للأندلس هي الأولى وقد بدت لي فيما تبقى لها من زيّها العربي كالعروس الجميلة المحنطّة في ثوب زفافها الأول ولم تكن لي معرفة تفصيلية بأحوال الأندلس آنذاك سوى ما رسخ في ذهني من أن بلاد الأندلس هي الفردوس العربي المفقود.

وأطـّلـت هذه الخواطر والانطباعات اثناء تجوا لي الذى استغرق اسبوعاً، ولم يسعف ذاكرتي بحث أو كتاب. وقد دهشت بعد كتابتها حين وجدت أن بعضا مما دار في خيالي كان له شبيه فيما ذكرته كتب التاريخ. فالحسناء التي كانت  تمشى على شاطئ نهر الوادي الكبير بأشبيلية لها شبه بقصة اعتماد الرميكية. وجامع قرطبة كان يسرج فيه بالفعل في كل يوم ألف سراج. وتخيلت في قصر الحمراء نساءً يطللن من خلف المشبكات.. الى غير ذلك.

فهذه الخواطر الأدبية المتناثرة ليست موضوعاً متكاملاً، ولا قصة ولا قصيدة، والشيء الذي يجمع بينها هو خيط رقيق من مخيلة صاحبها الذى اختار ان يعيش في ماضي الأندلس العربية دون ان يكون له شأن بإسبانيا المعاصرة كما يراها السائحون.

أتذكر أنني ذات مره صادفتُ في زيارتي الأولى لإسطنبول سائحة أجنبية تتجول باهتمام كبير في جامع (أيا صوفيا) ثم تكتب أو ترسم، وخلتُها معجبة بالفن الاسلامي، فلما سألتها عن موضوع اهتمامها قالت: انا لا أرى بعيني الا الحضارة البيزنطية فهي موضوع اهتمامي ولا شأن لي بما عداها.

وقد كنت فى تلك المشاهدات الأندلسية مثل تلك السائحة. وكان انشغالي بتدوين ملاحظاتي إثر كل زيارة، موضوع غرابة واحراج في بعض الاحيان. أذكر انني سألت موظفاً في فندق (مدريد) بأشبيلية عن سبب كل ذلك الوجوم والحزن البادي على المستخدمين فى هذا الفندق فأجاب قائلاً: أنك آخر من يسأل هذا السؤال ولعلك كنت شارد الذهن.. ثم شرح لي سبب تلك الكآبة ومما قاله: إن أحد الاثرياء الامريكان تعاقد مع شركة الفندق على تفكيك جميع سقوف حجرات الفندق وقاعاته وهي من الخشب المزخرف والمنقوش بالفن الإسلامي والعربي وبعضه كان مستورداً من بيت دمشق القديمة - على ان يتم شحنها بعد ترقيم القطع التي فيها الى امريكا ليتم تركيبها من جديد... وفى زيارات لاحقه سألت عن هذا الفندق فلم أجده ولعله غير اسمه..

والآن ماذا تقول تلك الخواطر .. التي ابتدأت بمدريد العاصمة الاسبانية، وانتهت بغرناطة، اجمل مدن الأندلس ..

 

رياح الأندلس .. تهب من الجنوب

1- مدريد:

سألت عن مدريد اهلها فقالوا :

اسمها القديم (مجر يط)، واطول شوارعها القلعة (الكلأ)،وكلاهما من أصل أندلسّي.

ثم سألت عن الأندلس فقيل لي: ريح الأندلس تهب من الجنوب ...

ولكنّي صعّدتُ شمالاً، فعبرتُ جسر (القنطرة) إلى الإسكوريال.

وفي مكتبة الأسكوريال قرأتُ المصحفَ الشريف مكتوبا بخطِ مذهبٍ جميل ..

ومن النافذة أطللت،

 فتراءى لي بعيدا جبل عبدالرحمن..

ونزلت ببصري من قمم الجبال الى منحدراتها،

فاذا ب(وادى الرُّمّة) يمتد مترامي الأطراف مخضرّ الجبين ...

وتولاني شعور لا يوصف أدركت معه لماذا اختار(ارنست همنغواي) صخرة في وادي الرمة وكتب عندها (لمن تدقُّ الأجراس) ..

**

وفي مدريد حضرت مصارعة الثور..

شاهدت لعبة الموت البطيء، والقتل على مراحل، وعطش المتفرجين للدماء !

والمتفرجون عادة من فئتين: واحدة مع الثور، والأخرى عليه...

والذين معه يُثيرُ أعصابهم ويهزّ انفعالاتهم منظر الثور المسكين.

الحراب المغروسة في كتفه والدم الجاري على نحره،

وهو يبدو أمامهم كالطفل الساذج حين يتكرر منه الخطأ وتعييه الحيلة.

وحين يأخذ به الأعياءُ كلّ مأخذ، وتستنزف الجراح معظم قواه يتدلى لسانه اطول ما يكون فيتجسّم في شحوبه وجفافه لون الموت، لمن فاته الطعم ! ... المصارع مغامر حذر يسعى لشهرة، هو في الأغلب ينالها ليس لمجرد قتل الثور ولكن لكيفية تنفيذ القتل حسب الأصول !

وهو ينالها ايضا اذا صرعه الثور بقرنه فأرداه،

فهناك في المتحف المجاور مکان مناسب لتخليد ذكرى(بطل) جدید . وللمصارع أعوان يبدون وكأنهم يتآمرون معه على الثور.

يسدون عليه المنافذ، ويسببون له الحيرة والارتباك.

ثم يستعجلون المصارع لقتله فيغرس في ظهره نصلاُ يربو على المتر، يخترق صدره وقلبه، فاذا تهاوى على الأرض طعنه بمدية حادة في موضع من رأسه يفارق معها الحياة.

في الوقت الذي يكون فيه الجمهور مشغولا بالهتاف والتصفيق للمصارع،

وهو بدوره ينحني للجمهور مع كل هتاف جديد،

يهرع المكلفون بنقل الثور، فيربطونه من قرنه الى عربة تجرها ستة جياد.

ثم يسحبونه من الساحة كما تسحب الكلاب الميتة!

وحين تساءلت عن السبب في استعجال الموت للثور قبل مضيّ وقت طويل،

قيل لى أن وراء قرن الثور قـّوة مدمرة هائلة، ولكنها لحسن الحظ غبية جاهلة .. واذا طال الزمن وتكررت التجربة ذا تها، فقد يتعلم الثور،

فيتجاوز الرداء الاحمر الى من يحتمي وراءه فيصرعه في غمضة عين.

انهم اذن يخشون قوة الثور، ولكنهم يستغلّون غباءه!

وعندما اخطأ احد المصارعين في التقدير وفارقه الحذر، شکّه الثور بقرنه فرفع محمولا على الأعناق إلى حيث يتوفر له الاسعاف.

وعندما أغمض الناس عيونهم من هول المنظر ودعوا للمصارع بحسن العاقبة،

تقدم الدليل المرافق يشرح للحاضرين أصل هذه الهواية الغريبة وأصولها.

وكان مما ذكر قوله ان مصارعة الثيران رياضة سنهَّا أهل الأندلس، وكانت تجري عندهم على الخيل.

وتساءلت بيني وبين نفسي ...

ترى هل هانت الجياد على أهل الأندلس فرضوا بتعريضها للموت، على قرن ثور جموح ؟ ..

 

2 - طليطلة :

وطليطلة بدت كحسناء فقدت مجدها الغابر وشوّهت محاسنها الأيام

وبقى لها من سمات الجمال سحر العينين .... ومن معالم الزينة سورها القديم كأنه ثوب زفافها الأول،

وعقد من الماس الأزرق يحيط بجيدها المشرئبّ،

وقناطر راسخة يعبر عليها التاريخ مكدود الخطى واهن العزم ...

وبقيت لها ايضا صنعة قديمة ... يسمونها الفن الدمشقي .

 

3- أشبيلية :

... عبرت (الوادي الكبير) في أشبيلية، وتملكني شعور من يعبر(بردى)إلى دمشق. ...وعلى الشاطئ حسناء تلهو وتمرح،

عرفتها من ملامحها فأنكرتني ، ورمقتها بنظرة عتاب،

لكنها مرّت من امامي مطرقة

كأنها تحاول أن تتذكر شيئا، أو تبحث في التراب عن سرّ دفین ... *1وعلى قاع صلبة مصقولة سمعتُ مع غیري،

وقع حوافر الخيل يأتي من الأفق البعيد

ثم يقترب رويداً رويداً...

ايقاعاً منتظما يبدأ خفيفاً ثم يتدرج صارخا عنيفاً ..

إنّها أختها الأخرى تمارس فنَّا يسمىّ ( الفلامنغو) نما وترعرع في أحضان الوادي الكبير.

أما أخوها، ذاك الذي يغصّ بآهات شجيّة،

إنه يضع يده على كبده من الألم ..

وحين تنطلق منه (الآه) تسبح يده الاخرى خلفها في الفضاء.

لكَأنّهُ يحاول أن يدرك زفراته الشاردة ويرجعها إلى مكانها الأول .. في قلبه ؟

وفي أشبيلية القصر(الكازار)

وبقربه بقایا سور متهدم لجامع مقوّض، ونصف مئذنة تنعي نصفها الأخر.

وهناك على الشاطئ منارة مغمضة العين

كانت قبلا جوار(دار الصناعة) ترشد الضال وتهدي العابرين ... .

وتذكرت، وأنا أعبر الفراغ بين هذه المعالم لأؤلف بينها

رائعة من الشعر القديم عبث الرواة بصدور ابیاتها والأعجاز،

ونحلوها من عندهم ما شاءوا، ثم ظلت على روعتها وارتفع عنصر الأصالة فيها فوق مستوى الزيف! ...... وبالقرب من القصر روض مجاور شممت فيه رائحة ورد محبب أليف !

قيل لي انها بقاياه تصان هنا اكراما لهذا المكان،

وقد كان قبلا في كل مكان، ثم تغير الذوق وتمّنعت التربة عن قبوله!

 

 4 - قرطبة :

وقفت في الطريق الى قرطبة عند انقاض المدينة الزاهرة والقصر الشامخ ... ولقيت صغاراً يلعبون، صبية وصبايا.

كانوا يعجنون الطين المتخلف من آثار الحفر ثم يصنعون منه اشکالا...

اقتربت منهم فتطلع إليّ أحدهم وابتسم فابتسمت له كأني اعرفه.

وتجرأ آخر فأقترب مني وفي مظهره ما ينم عن تعاسة وبؤس

رثيتُ لحاله وتذكرت قصة رواها التاريخ وقلت سبحان الله *2

وفي جامع قرطبة الكبير الف شمعة لا تضيء

ومن منافذ الهواء والنور يتسلل الشتاء والبرد،

وعلى البلاط العاري تقشعرّ اجسام المصلين وهم جلوس في انتظار الإمام ... ...وزعموا أن في المحراب مزاراً يُطاف من حوله،

ومصحفاً ينؤ بحمله أربعة.

وقالوا انه كان للحروف المزخرفة الجميلة المحيطة به فعل السحر في النفوس. واقتربت من تلك الآيات وقرأتها،( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعـّز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير أنك على كل شيء قدير) وقلت صدق الله العظيم .وسبحان الله.

لو بعث الله أهلها من جديد ماذا عساهم سيصنعون، وبأي لسان سينطقون)؟ ... وللجامع (كنيسة) تستقرّ منه في القلب !

لمحت فيها قسّاً يسير بخطى وئيدة كأنه ينؤو بما يحمل .

كلّمته فلم يفهمني،

لكنه شيـّعني الى الباب ثم اشار بيده الى الطريق.

وعند الصباح تبيّنت أثار أقدام تتجه نحو الجنوب، فتبعتها وسرت حيث أشار.3*

 

5-غرناطة:

ودخلت غرناطة من الوادي الكبير..

تسلّقت اليها الجبل الأشمَّ،

وحين ضللتُ الطريق أرشدني راعٍ كان حاسر الرأس كاسي القدمين!

قال لي بلهجة الأليف:

أمن أهل اندلوسيّا انت؟

قلت لا... ولا أفهم لغتهم،

قال العفو اذن..

عليك بهذه القلاع الشامخة ان ضللت،

فهي تنتشر جنوبا على طول الطريق،

وهي أيضاً لا تخلو من بقية ماء وظل ..

 

6- الحمراء:

نزلت في غرناطة قصر الضيافة مع النازلين، ثم ذهبنا نزور الحمراء...

وكما يطوف الحلم الجميل خفيفا بالأجفان النواعس فلا تستيقظ ولا تنام،

طفنا بأجمل قصرين في أجمل موضعين.

أحدهما لسكنى الصيف والآخر للشتاء.

فما كان للصيف فليست له جدران ولا سقوف.

وانما هي الطبيعة الفاتنة بأشجارها وازهارها وحشائشها ومياهها،

نسّقتها يد الانسان وجعلت منها مجلساً ومسكناً ومنظرا ..

ولم تنس موضع النجوم في سمائه، ولا مسير القمر في أرجائه ..

وحين يأتي وقت الصلاة يرقى المصلون الى الجامع سُلّما يغمر الماء درجاته .. فيبترد به من يشاء، ويتوضأ منه من يشاء.

أما قصر الحمراء فآية حسنه سقوف وجدران

اجتزنا (باب العدل) و (ساحة الريحان )ثم رافقنا الحراس الى بهو السفراء وقد انهك بصرنا الشعاع المنعكس من فناء البركة فلم نتبين في البهو شيئا.

وحين استراح النظر رأينا من الجمال عجباً لم نصدق معه  العيون...

واستقبلنا الأمير ابو الحجاج فسلمنا عليه وقدمنا له آيات

الشكر ثم دعونا له بالرفعة والمنعة ودوام الملك،

واستئذانه في التطواف بالقصر فأذن، *4

ورافقنا الدليل يطوف بنا اروقة القصر وحجراته واجنحته ونحن نستمع إلى شرحه والعجب والدهشة يأخذان منا بمجامع القلوب.

ثم سبقنا الحارس الى (حرم النساء) وصفق بيديه فاختفت الضجة في لحظات وساد الهدوء حتى بدت الدار وكأنها قد هجرت منذ أمد، لولا عيون تراءت لنا وكأنها تطل من وراء المشبكات المزخرفة والشرفات المستورة.

تشبع الفضول وتتقصّى ملامح الغرباء ..

وفي تطوافنا بعجائب الزخرفة والنقوش في السقوف والجدران قرأنا آيات في مواضع الآيات، ومدائح في مواضع التعظيم، وتاريخا عند مداخل الأروقة، واشعاراً حول برك المياه..*5

وتحاشي الدليل المرور بنا في قاعة بني سراج بعد أن شاهدنا على ارضها نقطا من آثار الدم، واقتادنا الى حمامات السلاطين، ووقفنا في المدخل عند نافورات الماء التي كانت حركاتها تنسجم مع رنات الموسيقى التي كانت تهبط من المشارف وقد جلس القيانُ بها يغنين ويعزفن ۰۰۰۰. وسمعنا الضجيج يعلو في الحمام، ولم نشأ آن نفسد على من فيه متعتهم، فسلكنا مخرجا يؤدي إلى حديقة القصر. *6

ولم ننس قبل الخروج أن نرتشف من ماء بركة السباع قطرات قيل انها تحفظ الشباب وتكسب الخلود.

وفي الحديقة مررت بفنان يعرض للبيع روائع من فنه، وقفت عند منظر من أشبيلية فيه ذلك القصر وتلك الحديقة و بقایا سور الجامع وما حوله من آثار عافية .. ...قلتُ هلاّ أكملتَ منظر الجامع ورسمته كما تتصور الأصل، فاشتريه،

قال حسناً سأفعل وأجدك في الدار قبل رحيلك.

وكان علينا ايضا أن نزور(الكاتدرائية) الكبيرة في غرناطة...

وفي طريقنا اليها مررنا (بالقيصرية) وهي سوق كانت للحرير الموصلي، وتشابهت علينا في الكاتدرائية الصور والرسوم والتماثيل المذهب منها والمفضّض او المجصّص، وهي تنؤ بما يزينُها من حلى و جواهر ثمينة ..... ولم أنس فيها صورتين زيتيتين الأولى تستقبل الداخلين بمنظر فارس اسباني يصرع عدواً له على الأرض، يغرس حربته في صدره ويزرع حوافر خيله في حشاياه، وعدوه مكب على وجهه يحيط به ظل قاتم يكاد يذهب بمعالمه كلها..

سألت عن معنى الصورة بسذاجة بدت وكأنها نوع من التغابي ،

فقال الدليل يصعب الشرح، ولكن أتذكر المحراب في قرطبة والآيات التي قرأتها من حوله؟ قلت نعم،

قال : هناك في جامع قرطبة الشطر الأول من الآية، وهنا شطرها الثاني.

قلت وانا اتمالك نفسی، اجل كان على أن افهم دون سؤال.

أما الصورة الأخرى فتودع الزائرين بمنظر مؤثر لحاكم غرناطة في ثلّة من حاشيته وهو يسلم مفتاح المدينة إلى خصمه المنتصر ..

ثم قال الدليل معلّقا:

(روى أن الدموع انهمرت من عينه وهو يسلّم مفتاح غرناطة، فقالت له أمه- حق لك يابنيّ ان تبكي كالنساء على ملك لم تدافع عنه كالرجال ..... وتخلفت عمن معي اتأمل الصورة ..

انهم يسمونها (آخر حسرات العربي).

ثم رجع الدليل واخذ بيدي وهو يقول : (أنه منظر مؤثر، اليس كذلك)؟

قلت بلى ولكن أصدقني - ما هو شعورك؟ قال أجل ..

ما مررت بهذه الصورة مرة ( وما أكثر ما أمرّ) الا وانتابني ما يشبه الشعور بنكران الجميل.

ثم استدار مخاطبا الاخرين.

(بهذا تنتهي جولتنا في الكاتدرائية وهي ايذان بانتهاء برنامج الرحلة في ربوع الأندلس ..

نرجو ان تكونوا قد استمعتم بها ونأمل أن نراكم مرة اخرى ) ..

قلت أجل وانها لخاتمة المطاف

وحين عدت إلى الدار وجدت صاحب الرسم في انتظاري.

مررت بالصورة على عجل ... ولم اكن قد صحوت بعد من مشهد الكاتدرائية والصورتين،

وجدت فيها الجامع بسوره المنيع ومئذنته الشامخة يشرف على ما حوله،

وخلفه من طبيعة الأندلس بساتين فاكهة وحقل زيتون ..

وحين مررت بناظري على قبة الجامع تسمرت عيناي عند منظر مريع،

فسألت غاضباً (أين الهلال يطلّ من وراء القبة كما أوصيتك)؟

قال: (حسبتك انما طلبت نجمة فقط) قلت لا نرسم النجمة هكذا أبداً ..

إنها تبدو هنا شوهاء لكأنك تعمدت بها الإساءة إلى جلال المنظر وجماله، قال أبدا .. ألم تجد هذه النجمة في القصر الذي زرته، والدار التي تسكنها قلت نعم، وفوق الفراش الذي فيه أغفو..

بلى لقد وجدتها في كل مكان وأضعتُ نفسي وهي تتجّسد امامي الآن بشكل مريع ..أنها نجمة اسرائيل.

 بودي لو مزقت هذه النجمة والمنظر الذي رسمته كله..

قال : (أنقدني باقي الثمن، ثم اصنع بها ما تشاء) .

 

الهوامش:

* 1 =  قيل في أخبار الأندلس أن المعتمد ابن عبـّاد صاحب أشبيلية كان يتمشـّى مع وزيره ابن عمار على جانب نهر الوادي الكبير , فلما شاهد ماء النهر قال : " نسج الريح على الماء زرد" ..ثم طلب من وزبره إكمال الشطر الثاني من هذا البيت , فعجز وزيره عن إكماله ..فاستدارت نحوهما جارية كانت تمشي أمامهم ,وأكملت البيت قائلة : " أي درع لقتال لو جمد" فاستحسن المعتمد قولها , وأعجب بها ثم تزوجها وصارت تعرف ب " اعتماد الرميكية" نسبة الى سيدها السابق " رميك"

* 2 = اشتهت اعتماد الرميكية على زوجها المعتمد ابن عباد صاحب أشبيلية أن تمشي في الطين -حين شاهدت الفتيات خارج القصر يمشين في طين الأمطار ويلهون ويمرحن – وكان لا يردّ لها طلبا, فأمر وسحقت لها أنواع الطيوب وصبّ فيها بماء الورد ثم عجنت بالأيدي حتى عادت كالطبن . وخاضته مع جواريها...ثم دارت الأيام وقلب الدهر للمعتمد ظهر المجـّن فنفي الى مراكش واعتقل في (أغمات) وكـّبل بالحديد حتى مات .وكانت معه زوجته اعتماد وبناته فكـّن يغزلن للناس من الثياب ويعشن على الكفاف (تاريخ العرب – حتـّي).وانشد المعتمد والحزن والاسى يغمر قلبه  ومما قاله :

(فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا  *  وكان عيــدك باللذات معمــورا

وكنــت تحسب أن العيــد مسعــدة  *  فساءك العيد في أغمات مأسورا

 تــرى بناتـــك في الأطـمار جائعـة  *  في لبسهن رأيت الفقر مسطورا

معــاشهن بعيــد العـــّز مــمتـــهــن  *  يغزلن للناس لا يملكن قـطميرا

يطــأن في الطــّين والاقـدام حافيــة  *  تشكو فـراق حـذاء كان موفورا

قــد لـّوثــت بيــد الأقـذاء واتــّسخت  * كأنــّها لم تطـأ مسكا  وكــافــورا

لا خــّد ألا ويشكــو الجــدب ظاهره  * وقـبل كان بماء الورد مـغمــورا

وكـم حكـمت على الأقوام في صلف * فــرّدك الــّدهـر منهـّيا ومأمـورا)

* 3 = بلغت قرطبة اوج مجد هافي عهد الناصر, فقد كان سكانها نحو نصف مليون وكان فيها سبعمائة مسجد وثلاثمائة حمام, بلغ دخل خزانة الخليفة ما يقارب ستــة ملاييـن ومـائتين

وخمسة وأربعين ألف دينار. وكانت بها سبعو مكتبة وزهــت بشوارع تمتــّد بضعة أميـال مضاءة بالقناديل. أما جامع قرطبة الكبير فقد وضع أساسه عبد الرحمن الأول عام 151ه

(687م) وكان يدعم سقفه 3921 عمودا. وتحت كل قوس من أقواسه مصباح من النحاس  وقيل من الذهب . وأنير فضاء الجامع بثريات  نحاسية كبيرة منها واحدة كان يوقــد فيهـا ألف مصباح. ( تاريخ العرب – حـّتي )

* 4 = الأمير أبو الحجاج هو الأمير أبو الحجاج يوسف صاحب غرناطة. وقد نقش اسمه على جدران قاعة " بهو السفراء" مشفوعا بالدعاء له بدوام الملك والعز والمنعة !!

* 5 = من بين الاشعار المكتوبة على قـّبة بهو السفراء هذه الأبيات:

(له القـّبة الغبــراء قـّل  نظـيرهــا  *  ترى الحسن فيها مستكــّنا وباديا

تـمـّد لها الجــوزاء كـفّ مصـافح  *  ويدنو لها بـدر الــّسماء مناجيـــا

وتهوى الـّنجوم الـّزهر لو ثبتت بها *  ولم تك في افق الســّماء جواريـا

ولم نـر قصرا منه أعـلا مظــاهـرا *  وأوضــح افـاقــا وأفــســح ناديــا

ولـم نـر روضا  منه أنعـم نـضـــرة *  وأعـطر أرجــاء وأحـلى مجانيــا

* 6 =  أثار الدم تشير الى مذبحة بني سراج المشورة التي نفذت في هذا الرواق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى