المسامح الصابر .. ذو حظّ عظيم (3/1)
بحلول شهر رمضان المبارك يحسن الحديث عن مكارم الأخلاق، وفي مقدمتها العفو والتسامح والإصلاح بين الناس. وكذلك بمناسبة إصدار العفو الملكي الكريم عن السجناء ومشروع العقوبات البديلة التي تنسج الفرحة في القلوب.
يقول المولى عزّ وجل في كتابه الحكيم (ولا تستوي الحسنة ولا السيـّئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولّي حميم * ولا يلقّاها إلا الذين صبروا ولا يلقـّاها إلا ذو حـّظ عظيم) – (فصلت: 34- 35)
وقال جلّ جلاله: (وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم) – (التغابن -14).
كثيرة هي آيات القران الكريم التي تحث على التسامح والرحمة والتواضع والدفع بالتي هي أحسن والإصلاح بين الناس والبشاشة والوداعة والعفو عن الناس مقرونا بالصفح وروح السلام والرحمة والتعاون على الخير والإخاء والإحسان والإيثار والكرم وكظم الغيظ وذم الاستكبار والتساوي بين البشر دون تمييز إلا بالتقوى وعدالة الحكم بين الناس حتى مع المبغضين والأعداء إلى آخر الصفات التي تهيئ البشر لحمل الأمانة التي عجزت عن حملها السماوات والأرض والجبال وحملها الإنسان فمنهم من أطاق حملها، ومنهم من عجز عنها فكان ظلوما جهولا.
أما بعد- فليس جمهور المسلمين وحدهم من يقرأ مكارم الأخلاق في الإسلام ففي الأديان الأخرى دعوات للتسامح، كما ورد عن النبي عيسى (عليه السلام) في ما نقل عنه قوله: (من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر) وفيما تذكره بقية الأديان والشرائع والتعبدات ما يشبه ذلك.
وفي عصرنا اليوم أصبحت الدعوة للتسامح مشروعا عالميا له مؤسساته ومنظماته، بدءًا من حقوق الإنسان وحقوق المرأة والطفل والشؤون التربوية والثقافية والإجتماعية والسياسية وغيرها كثير.
وإذا جئنا إلى سيرة نبينا الكريم فقد كانت حياته وأقواله وأفعاله تطبيقًا لما ورد في القرآن الكريم من آيات بينات في فضل التسامح والعفو ومكارم الأخلاق، فهو القائل فيما ورد عنه: (بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق) وقوله فيمن عاداه وتآمر عليه وخذله من قريش: (اللّهم ارحم قومي فإنهم لا يعلمون). ويكفينا الاستشهاد بقوله لمشركي قريش الذين تآمروا على قتله وتم أسرهم في فتح مكة: (اذهبوا فأنتم الطلقاء).
ومشى على سيرة النبي الأكرم آل بيته المنتجبين وصحابته الذين اتبعوه بإحسان والأتقياء من عباد الله الصالحين.
سيرة الإمام علي (عليه السلام) في العفو والتسامح ناصعة البياض. قال لأبنائه وصحبه حين ضربه الشقي عبدالرحمن ابن ملجم – وهو ينوي إطلاق سراحه – تخمينا – إن نجا من تلك الضربة: (إذا نجوت فأنا أولى به وإن متّ فهي ضربة بضربة وإياكم أن تمـّثلوا بالرجل).
وجاء في الخبر أن الإمام الحسن بن علي (عليه السلام) اعترضه رجل وسبه وشتمه، فأحسن إليه وأعطاه وأطعمه وكساه حتى خجل الرجل فاعتذر وبكى.
واعترض الحّر بن يزيد الرياحي ورجاله طريق الإمام الحسين إلى الكوفة عند واقعة كربلاء وكانوا يشكون من العطش فأكرمهم الحسين وسقاهم حتى ارتووا ثم آب الرياحي إلى رشده ومال إلى نصرته. ومثل ذلك في دفع السيئة بالإحسان فعل باقي أئمة أهل البيت مما هو معروف مشهور.
مع كل ما تقدّم ذكره عن فضائل التسامح، يدور في الخاطر هذا السؤال الملحّ: لماذا ما يزال كثير من الناس في مشارق الأرض ومغاربها عازفين عن التسامح، منصرفين عن التعايش مع الآخر المختلف، وهم عن التذكرة معرضون؟
فكرت في هذا الأمر وانتهيت إلى عوامل وأسباب في طبيعة البشر – ورب آخرين غيري لديهم أسباب مشابهة – وذلك فيما يلي:
طبيعة الإنسان وطبعه ذكرها القرآن الكريم في مواضع كثيرة منها: النفس الأمارة بالسوء – ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد (.ق 16)- خلق الإنسان من عجل – قتل الإنسان ما أكفره – وخلق الإنسان ضعيفا- إذا مسّه الخير منوعا، وإذا مّسه الشّر جزوعا – (إن الإنسان لربّه لكنود، وإنه على ذلك لشهيد، وإنه لحبّ الخير لشديد (العاديات-6-9) الخ…
تلك الصفات للإنسان المنحرف في القرآن الكريم هي لمن تحكم تصرفاته الغرائز الحيوانية وتسيّرها الشهوات وحبّ الذات ومتاع الدنيا والاستسلام للعواطف الجامحة بدلا من تحكيم العقل وسلوك المنطق السليم والنظر الى عواقب الأقوال والأفعال.
ومن الأسباب الإرث المجتمعي السلبي والتربية المنزلية والمدرسية – عند البعض – والاستماع إلى الأقوال المتطرفة العدوانية وثقافة العنف.
انتشار أخبار العنف والقتل والتدمير وشيوعها في وسائل التواصل وأفلام العنف، وفي ممارسات العنف والقتل والإبادة في كثير من الدول، على رأسها إسرائيل تجاه شعب فلسطين، وكذلك ما نراه في ماينمار تجاه أقلية (الروهينغا) المسلمة وممارسات كثير من الدول تجاه شعوبها وتجاه الدول الأخرى.
التعصب الأعمى الديني والطائفي والمذهبي والعرقي والعائلي والقبلي والسياسي والحزبي، وقل مثل ذلك حين تتحكم ثقافة الموروث الحقدي والعقد النفسية وعدم الاعتراف بالآخر، والنظرة الدونية لبعض مكونات المجتمع والكراهية وشهوة الانتقام في عواطف البشر. وفي محيط الأسرة حين تتحكم سورة الغضب بلا وازع ولا رأفة من ضمير فيتحمل الضعيف أثقالها وتولّد في نفسه الميل الى العنف.
الاستسلام إلى ما يعرف (بغسيل الدماغ) طوعا أو كرها من فئات تبرر القتل والانتقام وتلبس الحق بالباطل وتشوّق ضحاياها لمعانقة الحور العين في غير ما أمر الله.
ثم إنّي اختتم هذا الحديث بالقول إن من استطاع تطهير النفس وتزكيتها من تلك الأثام والشرور فقد فاز.. وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور.