التسامح وكرم الأخلاق الجاهلية – الوجه الاخر (3/2)

أنكر الله عزوجل على المسلمين الأخذ بحكم الجاهلية في قوله تعالى (أفحكم الجاهلية تبغون)، ويبدو أن جمهورا كبيرا من المسلمين اتخذوا من هذا الإنكار الإلهي جواز مرور ورخصة للطعن في عرب الجاهلبة وذمّهم أينما كانوا في جزيرة العرب قبل الأسلام. فهم كفار مشركون يتقاتلون على ثأر أو بئر ماء أومرعى أو حتى على ناقة أو جمل.وأنهم قساة القلوب معاشهم على السلب والنهب وأسر الرجال وسبي النساء ووأد البنات.. وقل ما شئت في عرب الجاهلية فستلقى أذنًا صاغية. تلك النظرة السلبية لا تخلو من حقيقة يعترف بها التاريخ.ولكن ما شأن النواحي الإيجابية في المجتمع العربي في العصر الجاهلي التي ينساها أو التي يتجاهلها الغافلون.وفيما يلي بعض التوضيحات:

1- استعمل عرب الجاهلية كلمة ” الجهل” ليس بمعنى عدم المعرفة وانما كانت في مقابل عدم الحلم والتعـّقل والغلو والإسراف في كل شيء. – يقول الشاعر عمرو بن كلثوم : (ألا لا يجهلن أحد علينا * فنجهل فوق جهل الجاهلينا). ويقول الصمّة القشيري: (بكت عيني اليسرى فلما زجرتها * عن الجهل بعد الحلم، أسبلتا معا)

2- كان عرب الجاهلية يؤمنون بالله خالق الكون بفطرتهم. والشواهد من أشعارهم وأقوالهم كثيرة تتردد على أفواه الصغار والكبار مثل: وأيم الله – لحاك الله – وسباك الله – أحقا عباد الله – جزى الله خيرا – ربّ العباد..ّ ألا كل شيء ما خلا الله باطل” – لبيد. وقد وردت تلك العبارات وأشباهها في كثير من أقوال العرب وكبار الشعراء .. وفيهم الحنفاء الموحـّدون على ملة إبراهيم الحنيف – وأتباع الديانات السماوية من النصرانية كالغساسنة ونصارى تغلب (الذين قدموا إلى النبي الأكرم في المدينة يلبسون صلبان الذهب وصالحوه على أن يقـّرهم على دينهم فأقـرّهم ) وغيرهم من قبائل اليهود في المدينة ونفر من الموحـّدين الذين تركوا عبادة الأصنام . وكان فيهم كهـّان يبشرون بالإله الواحد كثير منهم من بني عبد القيس وأياد ( البحرين) مثل قس ابن ساعدة الأيادي الذي قال عنه نبي الأسلام ” رحم الله قـسّا أني لأرجو أن يبعث يوم القيامة أمـّة وحده ” وأما ” الأيادي ” فهو الذي بنى في مكة صرحا وجعل فيه سلما كان يرقاه لمناجاة رب العالمين. وقال فيه الشاعر بشير الأيادي: ( ونحن ” أيــاد ” عــبيد الإله * ورهـط مناجيه في الـسّلم )

3- كانت عداوة قريش وسائر قبائل العرب لنبي الأسلام ليست بسبب الدعوة للإيمان بالله فهي كانت شائعة في زمانهم كما سبق وفي تلبيتهم في طوافهم حول البيت (لبيك اللهم لبيك -لبيك لا شريك لك ألا شريكا هو لك تملكه وما ملك) -وكذالك اعترافهم بالله الخالق كما جاء في القران الكريم -الاية 86 -87- المؤمنون: (قل من رب السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله قل أفلا تعقلون) إنما ساءهم غيرة واستكبارا وانكارا أن يختار الله النبي محمدا لرسالته دونهم. وأشار القران الكريم الى ذلك حين قال : ( وقالوا لولا نـّزل هذا القران على رجل من القريتين عظيم) – الزخرف31

يروى عن أبي سفيان أنه لما حضر إلى النبي في المدينة مستنجدا عرض عليه الشهادة الأولى أن لا إله إلّا الله قال : هذه نعم. وأمـّا محمد رسول الله ففي نفسي منها شيء! لكنه أسلم في حصار مكة بشفاعة العباس عم النبي. والسبب الآخر الذي منع قريشا من قبول الدعوة هو الدعوة لهدم الأصنام وإزالتها من الكعبة المشرفة.. ولذلك أسباب إقتصادية وتجارية وإجتماعية وسياسية لها بحث طويل – أكثر منها توحيدية حيث أشار القران الكريم إلى ذلك في قوله عزوجل ( ..ما نعبدهم إلا ليقـّربونا الى الله زلفى ) – ولم تكن الأصنام موجودة من قبل في جزيرة العرب ولكن جيء بها من الدول المجاورة.

كذلك يجب أن لا ننسى قيام “دار الندوة ّ وحلف الفضول الذي كان يعقد في دار عبد الله ابن جدعان أحد سادات قريش الذي تعاقدت عليه عشائر قريش وما حولها على أن لا يظلم أحد في مكة إلا ردّوا ظلامته – وإغاثة الملهوف وذلك سنة 590م. وقد شهد النبي محمد هذا الحلف قبل بعثته وقال عنه لاحقًا: “لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار عبد الله ابن جدعان ما أحب أنّ لي به حمر النعم, ولو دعيت به في الإسلام لأجبت” ومكارم الأخلاق اشتهر فيها عرب الجاهلية في حواضرهم وبواديهم وصارت مضرب الأمثال مثل الكرم الحاتمي. ووفاء السمؤل، ونجدة المستغيث والمروءة وإكرام الضيف والشجاعة، والنخوة والوفاء بالعهد وكثير غيرها… واستـّل منها الإسلام أحسن صفاتها وحماها من الإسراف الجاهلي .فالشجاعة أصبحت في الجهاد في سبيل الله – والكرم في الزكاة والصدقات- والغيرة على النساء في العــّفة – وما كان يذبح على النصب والأصنام والأزلام أصبح لوجه الله في هدي الحج وللفقراء واليتامى والمساكين والأسرى (ويطعمون الطعام على حبـّه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا) إلى غير ذلك مما كان في الجاهلية وتم تحويلة لصالح الإسلام وضعفاء المسلمين. بل أن كثيرا من شعائر الحج أبقت على بعض مساراتها في الجاهلية كالطواف والتلبية والوقوف في عرفات والهدي وبعض الشعائر الأخرى المذكورة في السـّير.

وخلاصة القول فإن لعرب الجاهلية وجهان وجه مظلم تصّدى له الإسلام بتعاليمه السمحاء ووجه آخر مشرق أضاء لعرب الجاهلية طريقهم لتقبل الإسلام وأعلاء كلمة الله ووحدهم ليصبحوا موضع الرسالة المحمدية : (.. وألـّف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألّـفت بين قلوبهم ولكن الله ألـّف بينهم أنـّه عزيز حكيم ) – 63 – الأنفال. فهل يعني ذلك أن تأليف قلوب العرب يساوي إنفاق ما في الأرض جميعا..نرجو الله ذلك.

وقد تنبـّه الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بفطنته الى موقع الأمة العربية من رسالة الإسلام حين أوصى بعرب البادية في قوله : (وأوصيكم بعرب البادية خيرا فإنهم أصل العرب ومادة الأسلام).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى