حكومة الخلافة والشبهات
حكومة البشر وتطورها عبر التاريخ الى اليوم، ووقائعها وأحداثها مدونة في تاريخ الأمم والشعوب. مصدرها بشري ومرجعيتها عقول البشر ووسائلها تتراوح بين التغلب والقهر وانتزاع الملك، وبين استرضاء الشعوب والمشاركة في الحكم والقرار. كما أن التاريخ سجل ايضا وقائع واحداث لحكومات ودول حكمت شعوبها بأسم الدين ألألهي… وبينما مارست الكنيسة في روما حقها في تنصيب الملوك تحت مسمى (الحق الألهي) كذلك مارس خلفاء الدول الأسلامية الحكم تحت مسمى خليفة المسلمين والحاكم بأمر الله وظل الله في الأرض. واتخذوا من مسمى (البيعة ) بالأكراه،سلاحا أشهروه في وجه المعارضين تحت مسمى الخروج عن طاعة أولي الأمر. ثم ادعاء تطبيق شريعة الأسلام بحقهم من قتل وتشريد والأستناد الى ما ورد في القران الكريم باعتبارهم من المفسدين في الارض.
وبخلاف ذلك، فأن عصر الخلفاء الراشدين يعتبر العصر الذهبي في تاريخ الخلافة الأسلامية، لقربه من عهد الرسول الأكرم واشتهاره بالعدل والأحسان والحفاظ على اموال المسلمين، وضيق الرقعة التي انتشر فيها المسلمون، وانصراف معظم النفوس عن الشهوات و حب الدنيا، هذا الى جانب بساطة ادارة الحكم في مجتمع صغير نسبيا. ويتخذ معظم الدعاة لأقامة خلافة أسلامية في هذا الزمان، الخلافة الراشدية مثالا يحتذى في هذا العصر.، ويبدو لي ان ذلك تصور ساذج لا يأخذ في الحسبان تغير النفوس، ولا تغير الأحكام بتغير المكان و الأزمان…والكل يعلم أن عالم الأمس القديم ليس هو عالم العصر الحديث، كما انهم يتجاهلون المصير الذي انتهى اليه عصر الخلافة الراشدية.
وللتذكير بذلك – من اجل العبرة فقط، لا من أجل نبش الخلافات-، فأن نهاية الخلافة الراشدية في عهد الخليفة عثمان رضي الله عنه والخليفة الأمام علي بن ابي طالب عليه السلام، لم تكن على ما يرام ولا على ما يطمح اليه اؤلائك الدعاة اليوم … فانظر ماذا جرى … صحابة رسول الله يتقاتلون فيما بينهم، ويتفرق المسلمون ثم يتحزبون اشياعا لهذا أوذاك..وكل حزب بما لديهم فرحون. وقد سمى المسلمون قتل عثمان بأنه (الفتنة الكبرى) واختلفوا في تسمية مقتل علي بين حزب الأمويين وشيعة علي واهل بيته، فهذا فرح وذاك محزون..
والعبرة فيمن لا يعتبر من تلك الأحداث الجسام ثم يدعو لبيعة خليفة في هذا العصر.. أن جميع تلك الأحزاب والمتقاتلين فيها كانوا يقرؤون القران ويروون احاديث الرسول التي تحذرهم من الفتن ويؤذنون للصلاة، حالهم حال اولئك الذين قتلوا الأمام الحسين بضعة الزهراء وريحانة الرسول الأعظم..وحال من اذوا أهل بيت الرسول وشتموهم على المنابر وشردوهم في بقاع الأرض..واستباحوا من المسلمين اموالهم وأعراضهم (كما حدث في استباحة مدينة الرسول اربعة او خمسة ايام وفي استباحة اهل مكة كذلك ومحاصرة بعض الصحابة في الحرم المكي ورميه بالمنجنيق) كما اخضعوهم بالسيف لأخذ البيعة والولاء.وهو ما فعله خليفة المسلمين معاوية بن ابي سفيان في اخذ البيعة بحد السيف، لابنه يزيد. ومثل ذلك فعله من جاء بعدهم من الخلفاء..فلم تعصمهم صلاتهم وصيامهم وتلاوتهم عن اقتراف تلك الاثام. وكاد المسلمون أن يستريحوا من دعوى الخليفة والبيعة بعد زوال خلافة ال عثمان،ثم يتفرغون لتنظيم شئون حياتهم ومزاحمة امم العالم الحديث في التقدم والأصلاح في شتى الميادين… لولا أن ذرّ اليوم قرن الخلافة والبيعة من جديد على اسوأ ما عرفه التاريخ من قتل وانتقام ووحشية واستعباد واستبداد وتشريد..
فليعتبر بذلك من يدعون الى تحكم فرد أو جماعة او حزب في رقاب المسلمين تحت مسمى بيعة أو دين أيا ما كان.. فالدين للفرد المسلم بينه وبين ربه، ولم نسمع أن الله عز وجل سوف يحاكم الحكومات المدنية ومؤسسات الدولة ووزاراتها وانما الحكم والحساب على الأفراد وأعمالهم.. وكلهّم اتيه يوم القيامة فردا.. والعاقبة لمن اتقى..والدعوة الأسلامية أحرى بأن توجه لاستقامة الأفراد ليصلح بهم المجموع، والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم..وحري بالدعاة الى تطبيق الأسلام و بالجمعيات الأسلامية والدينية أن تبدأ من أسفل الهرم الى الأعلا فتولي اهتماماتها الى تغيير ما في نفوس المسلمين و تقويم سلوك الفرد المسلم في العائلة والمجتمع والتعامل مع الناس بالمحبة والأخلاق الفاضلة والعمل الصالح والبر والأحسان والنهي عن الأسراف واعمار الأرض وتحكيم العقل لا العواطف،وطلب العلم وخدمة الأنسانية وكل ما جاء به الأدب القراني في اصلاح النفوس..ولا جدال في أن صلاح الفرد يؤدي الى صلاح المجموع..وهكذا يجب أن نفهم عبارة( الأسلام هو الحل) والتي يتشدق بها كل الدعاة الأسلاميين يقصدون بها تسلم السلطة ثم الأستبداد ويتبعهم الجمهور الغافل دون التعمق في مقاصدها القرانية.
وسياسة الحكومات هي من شؤؤن الدنيا ومصالح البشر لا سيما في احكام وقوانين هذا العصر…وحين يشاء الله عزوجلّ، أنـقاذ البشربة من الضلال فذلك مرهون بقدره وميقاته..وقد مكن الله في عهد رسوله الكريم – للمؤمنين دينهم الذي ارتضى لهم.. و بدلهم من بعد خوفهم أمنا… فانظر ماذا فعل خلفاء الأسلام من بعد الرسول..ويستشهد كثير من دعاة اقامة الخلافة الأسلامية بايات من القران الكريم تدعو الى الحكم بما أنزل الله، وقرائن تلك الايات واسباب نزولها تشير الى ان الحكم المقصود بها هو حكم القضاء ونزاهته وعدالته.. وبعضها نزل في يهود المدينة الذين لم يقبلوا بحكم الرسول..ومعظم ما ورد عن ” الحكم ” و مشتقاته في الكتاب كان مقصودا به التقاضي والقضاء ( واذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل..- 58- النساء).
كما يتمسّك اخرون بمبدأ الشورى في الحكم.. استنادا الى قوله تعالى (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون – الشورى -38) ونلاحظ هنا أن الشورى جاءت معطوفة على الواجبات التعبدية في سياق الألزام.. كما نلاحظ ان عبارة ” وأمرهم شورى ” لا تخص الواجبات الأيمانية التعبدية فهي لا تخضع للشورى.. وانما الوارد في السياق ان الشورى تكون في امور المسلمين المعاشية وأمور الدنيا عامة بما في ذلك سياسة الحكم والأدارة وما هو مأثور من قول نبي الأسلام: (أنتم اعلم بشئون دنياكم..).
ومفهوم الشورى يتسّع ليشمل نظام الأسرة والجماعة، كما يتسع اكثر من ذلك ليشمل تفويض الشعب لممثلين عنه في المجالس النيابية.وذلك في اعتقادي – هو أصح مفهوم للشورى مناسب لأساليب الحكم الدبموقراطي في هذا العصر..والحكومات المدنية في ديار المسلمين التي انشأت دساتيرها وقوانينها وانظمتها طبقا للنظام الديموقراطي الصحيح أفسحت المجال لجميع الأحزاب بما فيها الأحزاب والتيارات الأسلامية واحزاب المعارضة للدخول في المجالس الأنتخابية (البرلمان) والمشاركة في الحكم والتشريع طبقا لأرادة الشعب..وتلك احدى ميزات الديموقراطية ضد الأستبداد، والأستئثار بالمناصب الرسمية وحرية الرأي والتعبير. وارى انه من الأجحاف وصف الحكومة الديموقراطية المدنية بأنها “علمانية ” بالمعنى الشائع في عقول عامة الناس من انها حكومات ((مادية لا دينية)) رغم أن دساتيرها تنص على أن دينها الأسلام وان الأسلام هو مصدر التشريع او مصدر من مصادر التشريع (على اعتبار المستجدات الحديثة كقوانين الأستثمار والتجارة والصناعة والهجرة وشئون الطيران و والنقل والمواصلات وغيرها كثير ) ورغم انها تقيم المحاكم الشرعية وترعى الشئون الأسلامية والمراكزوالمعاهد والأوقاف والجمعيات االدينية والحريات الدينية للجميع..
لقد تنبهت الأمم الواعية المفكرة في دول الغرب بعد صراع طويل، الى مخاطر ومساويء تدخل الكنيسة في حياة الناس واستبداد ملوك اوروبا وطغيانهم تحت شعار الحق الألهي،فجعلت لشعويها سلطانا يحميها من التسلط والخوف والتلاعب بمصائرها وثرواتها، ونصت دساتيرها على ان الشعب هو مصدر السلطات ثم استراحت وتوجهت للعلم والصناعة والبناء الحضاري وتمكنت بقوتها الجديدة من ايجاد مجتمع يتمتع بالحرية والأمن والأستقرار. بينما بلاد المسلمين ما تزال تتعثر في مسيرة التقدم والنمو وعدم الأستقرار والنزاع فيها قائم على اشده منذ مطلع القرن العشرين الى يومنا هذا بين اختيار حكومة ” مدنية ” او حكومة “اسلامية “..ولم تكـفنا مائة عام لحسم هذا الصراع.
ويتجاهل دعاة الحكومة الأسلامية كثيرا من حقائق هذا العصر بالنسبة للحكومة المدنية واهمها ما يلي :
أولا: أن دول العالم بما فيها الأسلامية، اصبحت اليوم تضم في مكوناتها البشرية مذاهب اسلامية، وطوائف متعددة الأديان وأقليات قومية من كل نوع… وللمواطنين منهم حقوق المواطنة بالتساوي مع غيرهم وتكفل حقوقهم الدساتير والمواثيق الدولية تحت مظلة المواطنة للجميع…كما أن الحكومة المدنية ملزمة بوضع تشريعات تنظم السلطات الرئاسية والتشريعية والقضائية والتنفيذية وقوانين دقيقة مفصلة تنظم العلاقة بين الدولة والمجتمع وبين الأفراد والجماعات، كما تنظم جميع مرافق الدولة من وزارات وادارات ومؤسسات مالية واقتصادية وخدمات ومرافق وعلاقات دولية…الى اخر ما يمت الى كيان الدولة وشؤون الوطن والمواطنين..هذا النسيج المتشابك من الأديان والمذاهب والعقائد والقوميات وما يترتب على الدولة الحديثة تجاهها من مراعاة حقوقها حسب قوانين هذا العصر يختلف تماما عما كان عليه الحال في عصر النبوة والحلفاء الراشدين في مجتمع مكة والمدينة المحدود.والأحكام تتغير بتغير المكان والزمان.
ثانبا: ويمكن تلخيص موضوع الأختلاف بين الجماعات الاسلامية ذات التوجه السلمي للوصول الى الحكم ( خلافا لجماعات الجهاد السلفية أو التكفبرية التي تدعو الى حكم الخلافة الأسلامية كما كانت في عهد الخلفاء المستبدين ) وذالك في مواقفها من :
أ – تأييد حكومة الأمة في مقابل حكومة الشرع.
ب – أو حكومة الشرع في مقابل حكومة الأمة
ج – أو حكومة الأمة والشرع معا.
فأما حكومة الأمة فتعني الأخذ بالأستفتاء الشعبي على أساس ديموقراطي أو شبيه بذالك تحت مسمى مجلس الشورى المنتخب من الشعب باعتباره مصدر السلطات وهو الحل الذي يناسب العصر ويحفظ حقوق المواطنين على اختلاف دياناتهم ومذاهبهم وطوائفهم. أما حكومة الشرع مقابل حكومة الأمة فهو ما يزال عنوانا كبيرا غامضا ومستعصيا على التطبيق والتقنين في العصر الحاضر وفيه مخاطر الأستبداد في الحكم تحت غطاء الدين والفتوى ومخاطر تنفيذه بالأكراه والقسر وقد فشل فشلا ذريعا في اقامة العدل في تاريخ حكومات الخلافة الاسلامية المتعاقبة..وهو يفشل اليوم في الأنظمة والحكومات التي لجأت اليه لا بدافع الأيمان ولكن بدواعي المصلحة وخداع الجمهور. والنوع الثالث وهو حكومة الشرع والأمة معا فقد فشل بدوره في تجربة الأخوان المسلمين الأخيرة في مصر.
وفي بقية الدول الاسلامية التي أخذت بهذا المبدأ فهي ما تزال تترنح بين النجاح والفشل. فهم لم يتوصلوا بعد الى اعداد مشروع اسلامي مفصل متفق عليه، لأنشاء كيان دولة على الطريقة الأسلامية تناسب عصرنا الحاضر ومتطلبات الشعوب ومواطنيها…وأوضاع المسلمين اليوم لا تحتمل أن تصبح مختبرا للتجارب غير العملية. والمغامرات غير المحسوبة جيدا في عصر التقدم العلمي الهائل ونظم المعلومات و (التكنالوجيا) وتشابك المصالح بين دول العالم ولم يعد ممكنا في هذا العصر تقسيم العالم الى دار اسلام ودار كفر.
كتبت مجلة “العربي” الكويتية في افتتاحيتها (حديث الشهر – بقلم الدكتور محمد الرميحي / العدد 461 – أبريل 1997) بعنوان: مستقبل حركات الأسلام السياسي: غموض في الرؤية.. وقصور في فهم شكل الدولة .. ونسبت الى الكاتب الفرنسي (اوليفر روي) – من كتابه بعنوان ” فشل الاسلام السياسي “قوله مشيرا الى محاولة تيارات الحركات الأسلامية السياسية في أن تقدم خطابا جديدا يهدف الى بناء دولة مختلفة لم تعرف في السابق – ما يلي:
معضلة هذا الخطاب – كما يراها المؤلف – ليست في محاولة التجديد برفض القائم، ولكن في عدم وجود تصور محدّد واضح وعقلاني ومقبول أيضا للمؤسسات السياسية التي تزمع أنشاءها لأدارة هذه الدولة.
وفي موضع اخر ورد ما يلي:
(… ويبقى السؤال كيف يمكن اقامة المجتمع الأسلامي (و لعله يقصد حكومة أسلامية) هناك فوارق في الأجتهادات بين المعتدلين والجذريين خلال تاريخ الحركات الأسلامبة، كلهم متفقون على أهمية الوصول الى السلطة ولكن المعتدلين متحمسون لأسلمة المجتمع من أسفل الى أعلا، كالدعوة، وانشاء المؤسسات والحركات المدنية في الوقت الذي يتم فيه الضغط على القيادات الحاكمة من خلال التحالفات السياسية، وكذلك الأهتمام بالشريعة في أصدار القوانين)
وفي جانب اخر، جاء في مقال من مراسل جريدة الحياة في طهران السيد غسان جـدّو (الحياة – العدد 12497 – 18 مايو 1997- ص 4) هذا الكلام المنسوب الى حجة الأسلام محمد ري شهري في برنامج تلفزيوني في أطار حملة الأنتخابات الرئاسية ما يلي :
(… وعندما سئل عن فهمه للأقتصاد الأسلامي وتصوره له، تحدّث ري – شهري بجرأة وقال : ” بعد الثورة وخلال مراحل مختلفة لم نقدم نموذجا للأقتصاد الأسلامي.” وأكـّد أن كل ما طبق حتى الان هو عبارة عن برامج نسخت عن الأقتصاد الغربي.ولم يجد حرجا في القول أنه لا يملك رؤية متكاملة لما ينبغي أن يكون عليه الأقتصاد الأسلامي. وراى أن الحلّ يكمن في أن يجتمع رجال الدين وخبراء الأقتصاد لتحقيق الغرض المطلوب..)
كما يضيف فيما بعد..
“أعتبر ري – شهري أن الركيزة الأساسية لتغيير الأوضاع نحو الأفضل تكمن في أصلاح ثقافي شامل ينعكس على المجالات الأقتصادية والسياسية وغيرها..”
واقول: لعل فيما اوردته من حديث ما يؤيد ما ذهبت اليه في هذا المقال.
ثـالثا: لا يخفى على أحد أن الدول الديموقراطية المتقدمة قد اخذت – دون قصد – من المقاصد الاسلامية الشيء الكثير في مجال الرعاية الأنسانية والمجال السلوكي الأخلاقي والأجتماعي والتعاوني وايواء الفقراء والمعوزين واللاجئين وانتشار الجمعيات والمؤسسات الخيرية وحرية الأديان واحترام حقوق الغير والمواطنين على سواء، والتطوع لمساعدة المتضررين من الحوادث في جميع بلدان العالم، وكل ذلك من زمن بعيد افصح عنه دعاة مشهورون من شيوخ الأسلام مثل الأمام محمد عبده والشيخ الأفغاني والطهطاوي حين رجع الى مصر وقال عبارته المشهورة (وجدت في الغرب اسلاما بلا مسلمين، وفي الشرق مسلمين بلا أسلام…) ويكفينا اليوم ان تكون دول اوروبا وامريكا هي الملجأ الامن للمسلمين المشردين عن اوطانهم وأن تلك الدول تؤويهم وتصرف عليهم وهم فيها يسرحون ويمرحون. وقد أقام النظام العالمي في هذا العصر مباشرة او من خلال منظمة الأمم المتحدة رقابة على الحكومات التي تضطهد مواطنيها او تعذبهم او تتجنى على حقوق الأنسان والمرأة والطفل في معاملتها لهم.. وأنشأت محاكم دولية ومنظمات للأغاثة والتعليم والحفاظ على البيئة والتدريب على المهارات الفردية والجماعية في شتى الميادين، والسهر على حفظ السلام العالمي.. وكل ما ذكرت ومالم يذكر، – فيما اظن – يأتي في مقاصد الشريعة الأسلامية السمحاء والعمل الصالح.
رابعا: يهتم الدعاة الى حكومة الشرع الأسلامي اهتماما كبيرا فوق المعتاد باقامة الحدود الشرعية، ويتغافلون عما سواها من مبادي العدل والأحسان والمساواة بين الناس وتحريم القتل ونهب الاموال وغيرها. بل ان كثيرا من السلفيين والتكفيريين يكادون يختزلون الأسلام في هذا الباب. واغلبهم لا يعترفون بوجود مشكلة كبيرة في تطبيق احكام الحدود في هذا العصر ’ ولا يقيمون وزنا لاعتراضات محلية ودولية تصفها بالوحشية وانتقاص حقوق الأنسان الذي كرمه الله ووعده بالعفو والمغفرة عند التوبة…والأعتراض أنما ينصب ّ على وسائل التحقق من ثبوت تلك الجرائم باعتبار ان معظم المحاكم الشرعية و السلفية بالذات، لا تستعمل ادوات التقاضي والأثبات في المحاكم العدلية المدنية المعترف بها دوليا. الى اخر تلك الأعتراضات..ثم أن بعض المذاهب الأسلامية لديها اجتهادات في كيفية تطبيق الحدود. ولعدد لا بأس به من الدعاة الأسلاميين والمفكرين الأسلاميين أيضا اراء واجتهادات في هذا الموضوع. ونستعرض فيما يلي بعض الأمثلة – دون ابداء رأي في صوابها من عدمه.
– حـدّ السرقة : قطع اليد – يرى معظم فقهاء المذهب الأمامي أن موضع القطع هو الأصابع دون الكفّ..وذلك لكي يتمكن العبد في صلاته من اداء الركوع والسجود (ولذلك فائدة اخرى وهي عدم خلق عاهة دائمة تعيق الأنسان عن العمل وطلب الرزق )
– ويرى المفكر الأسلامي من الأخوان المسلمين السيد قطب في كتابه “العدالة الأجتماعية في الأسلام” ومن على رأيه من المفكرين الاخرين أن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب عطل العمل بقطع اليد للسارق في عام المجاعة… وأن الفقر شائع في ديار المسلمين اليوم لعدم تطبيق العدالة الأجتماعية، فمن العدل انزال عقوبة اخف لا تصل الى قطع اليد، حتى تأخذ الأمة كفايتها من العدالة الأجتماعية. كما يقترح العمل بمبدأ وارد في الشرع تحت مسمى (سد الذرائع) وذلك بأصلاح المجتمع وحصول الفرد على كفايته حتى لا توجد ذريعة للسرقة والفساد.
– كما يرى الكاتب الأسلامي محمد قطب في كتابه ” شبهات حول الأسلام ” أن الأسلام يقرر عقويات رادعة ولكنه لا يطبقها أبدا حتى يضمن اولا أن الفرد الذي ارتكب الجريمة قد ارتكبها دون مبرر ولا شبهة اضطرار..ولا يقرر قطع يد السارق ابدا وهناك شبهة بأن السرقة نشأت من جوع .. وأن سياسة الأسلام في جميع العقوبات أن يلجأ اولا الى وقاية المجتمع من الأسباب التي تؤدي الى الجريمة قبل أن يقرر العقوبة…فأذا عجز المجتمع لسبب من الأسباب عن منع مبررات الجريمة أو قامت الشبهة عليها في صورة من الصور فهنا يسقط الحد بسبب هذه الظروف المخففة.
– ويرى الكاتب الأسلامي المفكر الدكتور محمد شحرور أن ورود كلمة ” السارق والسارقة” في القران الكريم ب أل التعريف هو دلالة على من اتخذ السرقة مهنة له مثلما نقول في اللغة (الحداد والنجار والبناء الخ..) وأن من يسرق لأول مرة لا يعاقب بقطع اليد،وأنما بعقوبة مدنية اخرى حتى يثبت بعد التحري مزاولته للسرقة مرارا كحرفة. كما يرى د. محمد شحرور، ما معناه أن الحدود في القران الكريم بعموميتها هي الحد الأعلى للعقاب استنادا الى قوله تعالى.. (وتلك حدود الله فلا تعتدوها. فلا تقربوها.. الخ) وانه من المناسب في هذا العصر أن تبدأ العقوبة بالحد الأدنى الذي يتكفل به قانون العقوبات ثم تتدرج بتكرار ارتكاب الجرم الى ما فوقها.
– ولا يقف المفكرون الأسلاميون المجددون كثيرا عند تطبيق حد الزنا وهو الجلد – كما نص عليه القران.. وليس الرجم كما جاءت به الأحاديث الظنية.. لاشتراط القران الكريم توفر اربعة شهود عدول يرون الفعل بالعين المجردة.. وذلك نادر الحدوث.
– ويرى البعض في موضوع شرب الخمر انه معصية بين الأنسان وربه، وأن المذاهب اختلفت في مسألة التحريم اهو في السكر `ذاته ام في المسكر.والمسكر في قليله أم كثيره الخ..وكثير من المسكر داخل في الدواء.. ويرون أن ما يرد من عقوبة في القانون المدني فيه الكفاية.
– أما قتل المرتد عن الأسلام ففيه اشكال لعدم وجود نص صريح في الكتاب على ذلك. والاية في القرآن الكريم تقول (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولائك حبطت أعمالهم في الدنيا والاخرة واولئك اصحاب النار هم فيها خلدون – البقرة 217)
تلك هي مجرد اراء واجتهادات في موضوع تطبيق الحدود الذي تعتبره الجماعات المتشددة والسلفية انه أمر مفروغ منه قابل للتطبيق في عصرنا هذا.. وهو ليس كما يتصورون .. وذلك من بين اراء واجتهادات اخرى مستجدة لعلماء في الشرع الأسلامي ولمفكرين اسلاميين وسواهم – لا مجال لذكر اسمائهم – جديرة بأن تناقش بموضوعية في نطاق تجديد الفكر الأسلامي المعاصر..بدلا من اللجوء الى التشهير والتكفير وتهم الأرتداد عن الدين كما يجرى في بعض البلدان الأسلامية.
.
والخلاصة:
فأن ما يتصوره دعاة اقامة ” خلافة اسلامية ” وتنصيب خليفة أو أمير للمسلمين واخذ البيعة له..والتغرير بشباب الأمة واستغلال حماستهم للدين للتضحية بأنفسهم وثكل عوائلهم تحت مسمى ّالجهاد،، لتحقيق هذا الغرض الذي هو خارج التاريخ وخارج العصر الحديث،… وأن ذلك فرض واجب على المسلمين في هذا العصر لتحقيق ذلك، ولو أدى الى الفتنة والأقتتال بين المسلمين، وأنه من أمر الله تعالى… لا يستند الى نص شرعي مقبول متفق عليه، ولا مبرر له في عصرنا هذا، لا سيما اذا اقترن كل ذلك بأزهاق ارواح المسلمين وغير المسلمين باعتبار من تحرّج من المسلمين عن هذا الفعل،كفارا يستحل ّ غزوهم وقتلهم وتشريدهم من ديارهم. ونصرة شعب فلسطين من الغزو الصهيوني هو الاولى شرعا وعرفا لمن اراد التضحية والأستشهاد في سبيل الله والوطن ..أما سبيل الدعوة الى الله كما أمر به الله (أدع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم باللتي هي أحسن ) فذلك حق مشروع وقد تكفلت به الحكومات المدنية العصرية في دساتيرها وتشريعاتها والتي تفسح المجال واسعا للأعتراض والمعارضة السلمية وتكوين احزاب معارضة لها. ولم نسمع أن الله تعالى سوف يحشر للحساب دول العالم و حكومات الدنيا كافة.. ولكنه سوف يحاسب افرادها على أعمالهم : فمن يعمل خيرا يره ومن يعمل شرا يره.
ثم أني اختم مقالتي هذه بقوله تعالى: (يا أيها الذين امنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ أذا اهتديتم الى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون) .
ولله الأمر من قبل و من بعد – والحمد لله رب العالمين..
بقلم: تقي محمد البحارنة